قبل عشر
سنوات خطرت لي فكرة كنت أظنّها حينها لامعة؛ مشروع أطلقت عليه اسم "استثمار
التفاهة"،
وكان السؤال الذي يشغلني: لماذا لا نبحث عن مجموعة من أولئك التافهين الذين يملكون
وصولا هائلا إلى الجماهير، فنضع بين أيديهم
رسائل فكرية راقية، ونطلب منهم تمريرها
بخفّة ونعومة بين ثنايا ما يقدّمونه من
محتوى سطحي يجذب القلوب والعقول بلا مقاومة؟
بدا الأمر وكأنه اختراق ناعم لجدار الغفلة، يقدّم الفكرة العميقة في غلاف بسيط.
لكنني
بعد طول تفكير، ومراجعة للسّنن، ومقارنة بين المصالح والمفاسد، وجدت أنّ الكفة تميل
بوضوح؛ المفاسد أعظم بكثير من المصالح، والقاعدة التي دلّنا عليها الوحي والعقل أن
لا مصلحة محضة ولا مفسدة محضة، بل كل فكرة تحمل في طيّاتها هذا وذاك، والعبرة بميزان
الغلبة؛ فإذا غلبت المصلحة صارت الفكرة راقية ومشروعة، وإذا غلبت المفسدة تحوّلت إلى
خطرٍ يجب الحذر منه. وهكذا طويتُ الفكرة، وأنا على يقين أنّ الاستثمار في التفاهة إن
بدا ممكنا ونافعا آنيا فهو كارثة استراتيجيا.
هنا تكمن الخطورة؛ حين تُستعمل التفاهة بوصفها أداة لإدارة الحشود في مشاريع سياسية ترى في تهدئة الوعي أقصر الطرق إلى الاستقرار، غافلة عن أن هذا الاستقرار المؤقت يزرع بذور هشاشة استراتيجية تفتك بالوعي الجمعي في المدى البعيد
إنّ موطن
الكارثة في استثمار التفاهة يكمن في التطبيع مع التفاهة ذاتها وجعلها حالة متقبّلة
بل سيصل الأمر إلى جعلها محبَّذة في
الوعي الجمعي؛ فحين نُجيز لها أن تكون وسيلة للخير،
نمنحها في اللاوعي شهادة براءة، وندخلها إلى فضاء المشروعية الثقافية. ومع التكرار
تتحول التفاهة من سلوك فردي عابر إلى نظام مجتمعي مقبول، تُقاس به القيمة، وتُبنى عليه
العلاقات، ويُعطى له الحق في التصدّر؛ عندها لا نكون قد استثمرنا التفاهة وإنّما
أطلقنا يدها لتستثمر هي فينا، تغرس حضورها في وعي الأمة، وتُحيل المجتمع إلى ساحة تُدار
بموازين سطحية خاوية. وهذه هي الخطورة الحقيقية؛ أن تتحوّل التفاهة من وسيلة مرفوضة
إلى بنية تحتية للثقافة، تُشرعن وجودها تحت غطاء المصلحة، فتأكل من الداخل كل معنى
رفيع، وتتركنا أمام جيل يرى التفاهة طبيعية بل معيارا للحياة والنجاح.
التفاهة
باعتبارها أداة سلطة واقتصاد
الخطر
لا يقف عند حدود الفرد التافه في ذاته، وإنما يتجلّى في اللحظة التي تتحول فيها التفاهة
إلى ذراع من أذرع السلطة؛ فحين تواجه النظم السياسية تحدّي الخطاب العاقل، وتدرك أن
الكلمة الواعية تثير الأسئلة الكبرى، وأن النقد البنّاء يُربك المسارات السائدة، فإنها
قد تبحث عن بدائل تضمن السيطرة على المزاج العام.
وهنا يظهر
التافهون في المشهد بوصفهم أدواتٍ ناعمة، يُستعان بهم لتخفيف الاحتقان وتبديد الأسئلة،
سواء أكان ذلك في مشروعٍ استبدادي يسعى لإدامة هيمنته، أم في نظامٍ يظن أنّه يخدم الأوطان
ويقوم بالترويج لمشاريع النهضة النّاشئة. ففي الحالتين؛ التفاهة تُستثمر بوصفها وسيلة
لإدارة الوعي، قادرة على ما تعجز عنه الخطابات الرسمية والبيانات الجامدة، لأنها تتسلل
بخفة إلى العقول، وتعيد توجيه البوصلة الجمعية من دون صدام مباشر مع القيم أو المبادئ.
التافهون
يملكون سرّ النفاذ؛ يصلون إلى أعماق البيوت دون استئذان، يقتحمون الوجدان بخفّة الضحك
واللعب، ويحوّلون القضايا الكبرى إلى مشاهد عابرة تذوب في سيل الترفيه. السلطة تدرك
أنّ السيطرة لا تُحسم بالقوة العارية وحدها، وإنما بإعادة تشكيل الوعي، والتفاهة هي
المسرح المثالي لهذه العملية، فمن خلالها يُعاد تعريف المقبول والمرفوض، ويُعاد إنتاج
الولاء عبر ضحكات لا تبدو سياسية، ومقاطع لا توحي بالتوجيه المباشر، غير أنّ أثرها
أعمق من أي خطاب رسمي.
وحين يصبح
التافه ناطقا غير معلن باسم السلطة، فإنّ أخطر ما يحدث هو إعادة تشكيل الحسّ الجمعي؛
إذ يتربّى الناس على أن السياسة مجال للفرجة، وأن القضايا المصيرية لا تستحق الجدية،
وأن الضحك الجماعي يكفي ليعالج مرارة الواقع.
وهكذا
تتحقق الغاية الكبرى لمن يسعى إلى إدارة الوعي، سواء أكان ذلك في منظومة استبدادية
تحاول تثبيت سلطانها، أم في نظام سياسي ناشئ يتوهم أنّ تسكين الجماهير بالترفيه يهيئ
بيئة آمنة للتنمية.
فالمسألة
تتجاوز القمع المباشر إلى صناعة وعيٍ مُسيطَر عليه عبر اللهو الذي يتخفى خلف ستار البهجة؛
عندها يتحول التافه إلى أداة قادرة على إعادة إنتاج الرضا العام، وصياغة قبول جماعي
بالواقع كما هو، في الوقت الذي تتآكل فيه مَلَكة السؤال، وتضعف شجاعة النقد، وتخفُت
جذوة التفكير الحر.
وهنا تكمن
الخطورة؛ حين تُستعمل التفاهة بوصفها أداة لإدارة الحشود في مشاريع سياسية ترى في تهدئة
الوعي أقصر الطرق إلى الاستقرار، غافلة عن أن هذا الاستقرار المؤقت يزرع بذور هشاشة
استراتيجية تفتك بالوعي الجمعي في المدى البعيد.
وكما يتحالف
السياسي مع التافه؛ يتحالف معه رجل المال، فالسوق يحتاج إلى استهلاك دائم، والتافهون
هم رعاة القطيع الاستهلاكي؛ يربطون السلعة بالصورة، والمنتج بالموضة، ويحوّلون الجماهير
إلى زبائن أبديين.
الحقيقة الأعمق تتجلى في المدى البعيد حيث يتربّى الجيل على سطحية تُطفئ جذوة الجدية، وتُنمّي في النفوس عادة اللامبالاة، وتفتح الأبواب لهيمنة أشكال جديدة من العبودية؛ عبودية الصورة اللامعة، والموضة العاجلة، والترند الزائل
في هذا
التحالف، يبدو أن الجميع رابح؛ التافه يزداد شهرة وثروة، ورجل المال يضاعف أرباحه،
والجماهير تظن نفسها مستمتعة، ولكنه ربحٌ قصير المدى يخفي خسارة استراتيجية بعيدة؛
تفريغ الإنسان من رسالته، وتحويل المجتمع إلى سوق كبير لا روح له.
بين المكسب
العاجل والانهيار البطيء
يبدو حضور
التفاهة في المدى القريب أداة ناجعة، تمنح السياسي منفذا مريحا لإدارة الرأي العام،
وتقدّم لرجل المال وسيلة مضمونة لتصريف بضاعته، وتغري بعض المصلحين بظنّ أنّها جسر
ميسّر يمكن أن تُزرع عبره القيم في وعي الجماهير.
غير أنّ
الحقيقة الأعمق تتجلى في المدى البعيد حيث يتربّى الجيل على سطحية تُطفئ جذوة الجدية،
وتُنمّي في النفوس عادة اللامبالاة، وتفتح الأبواب لهيمنة أشكال جديدة من العبودية؛
عبودية الصورة اللامعة، والموضة العاجلة، والترند الزائل، التي تُخضع الإنسان لسطوة
المظهر وإكراه السوق مبتعدة به عن سلطة الفكرة واستعلاء القيمة.
إنّ التّفاهة
قد تُغري المصلح في لحظةٍ من لحظات العجز، فيظن أنّها ممرّ قصير إلى قلوب الناس، غير
أنّها تتحول في النهاية إلى هاوية تبتلع الرسالة ذاتها، وتُخضعها لمنطق السوق والاستهلاك؛
فما يُرى مكسبا سريعا ليس إلا وهجا زائفا يخفي خسارة استراتيجية لا تُعوَّض، إذ تُختزل
الفكرة في صورة، وتُفرغ القيمة في شكل، ويضيع الحق في ضجيجٍ لا يترك في الوعي أثرا.
لقد أدركتُ
منذ عقد أنّ الرسالة لا تحتاج إلى التفاهة لتصل، لأنّ الرسالة في جوهرها نورٌ يفرض
ذاته، أقوى من أن تُخفى في قناع زائف، وأشرف من أن تستعير لسانا تافها لتمرير حقيقتها؛
فالمعركة الحقيقية ليست في تسويق المعنى في سوقٍ خاضع لقوانين الترفيه والاستهلاك وإنما
في بناء وعيٍ ناضج يُدرك التفاهة فيرفضها، ويقاوم إغراءها، ويُبدع بدائل تُحرر الإنسان
من سطوة الصورة إلى فضاء الفكرة، ومن عبودية الترند إلى أفق الرسالة.
وهذا هو
الرهان الأعظم؛ أن تبقى الرسالة في نقائها، صامدة أمام إغراء الالتفاف على الواقع،
وأن يُبنى جيل لا يرى التفاهة وسيلة مشروعة ولكنّه يراها مرضا وشذوذا يجب تجاوزه، وعندها
يتحقق التحرر الفكري، وتنهض الأمة على أساس الوعي العميق وليس على أرضية اللهو العابر.
فالتاريخ لم يُصنع يوما بأدوات التافهين، وإنما صُنع بكلماتٍ صادقةٍ واجهت الواقع بصلابة،
وبأفكارٍ عميقةٍ حملت الأجيال من زمن الهشاشة إلى أفق الخلود.
x.com/muhammadkhm