قضايا وآراء

كذبة الحقيقة في الإعلام

رائدة حمره
"الشعار لا يتجاوز كونه لافتة دعائية"- سي إن إن
"الشعار لا يتجاوز كونه لافتة دعائية"- سي إن إن
من حينٍ لآخر، تتسابق القنوات الإخبارية في الترويج لنفسها على أنها "ناقلة للحقيقة"، رافعة شعارات براقة مثل "الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة".

فعلى سبيل المثال، ترفع قناة سي إن إن شعارها الشهير "Truth First" أو "الحقيقة أولا". لكن هذا الشعار لا يتجاوز كونه لافتة دعائية، إذ لا يجد له صدى حقيقيا على أرض الواقع، خاصة إذا تذكرنا تغطية القناة لبدايات الحرب على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عبر مراسلتها كلاريسا وورد (Clarissa Ward)، التي ظهرت في مشهدٍ تمثيلي وكأنها منبطحة على الأرض هربا من صواريخ مزعومة تستهدف إسرائيل، وفقا لما ورد في موقع "Reddit" تحت عنوان "The same Clarissa Ward that was caught faking stories in Israel" ، بينما أكدت وكالة رويترز لاحقا في تقرير نشر بتاريخ 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بعنوان "Fact Check: Fake audio added to CNN video of Israel-Hamas war coverage " أن الصوت المرافق للفيديو كان مفبركا.

مثال آخر لسي إن إن: بتاريخ 23 تموز/ يونيو 2025. نشرت المحطة تقريرا يفيد بأن بعض قادة الحزب الديمقراطي الأمريكي لم يُبلغوا مسبقا بضربة على مواقع نووية في إيران، ثم اعتُرِفَ في التعديل بأن أحد القادة (Chuck Schumer) تمّ الاتصال به قبل الضربة، وليس بعد كما ورد في النسخة الأصلية.

وتعد المعلومات المضللة خطأ ارتكبته القناة لأنه يتعلق بتوقيت الإبلاغ وبشكل رسمي/سياسي حساس، ويُظهر كيف يمكن أن تغيّر تفاصيل "مَن أُعلم ومتى" منطق التغطية وتفسيرها.

لا يرتبط مفهوم الصحافة بمصطلح "الحقيقة"، فالمهنة في جوهرها تقوم على نقل الواقع من خلال معلومات دقيقة تشمل البيانات والأرقام والتصريحات والوثائق والصور والشهادات، وهي كلها أدوات قد لا تعكس الحقيقة الكاملة

وفي 17 كانون الثاني/ يناير 2025، حكمت هيئة محلفين في فلوريدا بأن سي إن إن قد قامت بتشويه سمعة المحارب الأمريكي السابق في البحرية زاكاري يونغ (Zachary Young) عبر تقرير نشرته الشبكة عام 2021 بشأن خدماته في إجلاء أشخاص من أفغانستان. بعدها وصلت سي إن إن إلى تسوية قانونية معه لتجنّب مرحلة المناقشة في العقوبات التأديبية في المحكمة.

من الناحية الأكاديمية، لا يرتبط مفهوم الصحافة بمصطلح "الحقيقة"، فالمهنة في جوهرها تقوم على نقل الواقع من خلال معلومات دقيقة تشمل البيانات والأرقام والتصريحات والوثائق والصور والشهادات، وهي كلها أدوات قد لا تعكس الحقيقة الكاملة.

فـ"الحقيقة" هي المعنى الكامن وراء هذه المعلومات، وغالبا ما تبقى بعيدة المنال؛ الوصول إليها مهمة تخص جهات أخرى -مثل القضاء- أكثر مما تخص الصحافة، رغم سعيها الدائم للاقتراب منها.

قمة الاحتراف في العمل الصحفي تكمن في نقل الحدث كما هو، بدقةٍ وتجرد، دون زيادة أو نقصان، ودون مشاعر أو آراء شخصية، مع عزو الخبر إلى مصدره الأصلي. غير أن هذا المبدأ الصارم يصعب تحقيقه، وتتعثر في تطبيقه معظم القنوات الإخبارية، التي تخضع أجنداتها التحريرية لميول سياسية أو تمويلية تنعكس على مضمونها فتشوه الصورة أمام المشاهد.

ويبقى السؤال: ما الحقيقة؟

مصطلح فضفاض يختلط فيه الرأي بالمعلومة، والصحيح بالمغلوط. يقول الصحفي الأمريكي الشهير آندي روني: "الناس بشكل عام يقبلون الحقائق على أنها حقيقة فقط إذا كانت الحقائق تتفق مع ما يؤمنون به بالفعل".

ختاما، جوهر الصحافة لا يقوم على "البحث عن الحقيقة"، بل على نقل ما يحدث كما هو، بموضوعية ومهنية. أما ما عدا ذلك، فليس من الصحافة في شيء، وإنْ تجمّل بشعارٍ رنانٍ اسمه "الحقيقة".
التعليقات (0)

خبر عاجل