صار مؤكداً أنّ الفظائع الرهيبة لا تقتصر على الماضي، فهي قابلة لأن تتجدّد بالألوان أيضاً، وأن تقترفها أنظمة عصرية وجيوش حديثة تستخدم قدرات تقنية عالية وتوظِّف الذكاء الاصطناعي في ممارسة جرائم الحرب.
ينبغي الإقرار بأنّ القيادة
الإسرائيلية قدّمت إلى المجتمع الدولي خبرة مطوّرة في كيفية الإقدام على اقتراف إبادة جماعية وتطهير عرقي وتدمير شامل وحرب تجويع، دون أن تخسر شراكاتها الواسعة مع عواصم الديمقراطية وحقوق الإنسان المتقدِّمة، كما يتجلّى في العلاقات الوطيدة مع الولايات المتحدة وفي استمرار "الشراكة الأوروبية الإسرائيلية" بلا مساس حتى الآن.
صارت هذه الخبرة اليوم مُتاحة للعالم من واقع الممارسة المرئية على مدار سنتين كاملتين، حتى أنّها تشكِّل مضامين دليل تطبيقي في كيفية تنفيذ
الإبادة الجماعية الحديثة في القرن الحادي والعشرين.
لا يتطلّب الأمر عناء في توقّع مضامين هذا الدليل بعد كلّ ما شهده العالم في قطاع
غزة، فالتحدِّي الجوهري الذي يتعامل معه هو كيفية تمكين العالم من التعايش مع اقتراف إبادة جماعية منقولة عبر البثّ المباشر والأجهزة المحمولة.
من المفاهيم الأساسية في هذا الدليل أنّ جهود "العلاقات العامة" أو الدعاية بالأحرى، مكرّسة في هذا الشأن في خدمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، فعلى الجهود الإعلامية والدعائية أن تخدم استراتيجيا العدوان المعتمدة وليس العكس، وأن تُساهِم في تيسير تنفيذ الإبادة الجماعية بكلّ فصولها الرهيبة، عبر تبريرها وصرف الأنظار عنها ومحاولة التعمية على وقائعها إن أمكن.
لا ينبغي الكفّ عن نهج الإبادة الجماعية وجرائم الحرب بدعوى العناية بالصُّورة والحرص على انطباعات الجمهور، بل ينبغي مساعدة الجمهور على التكيّف مع واقع الإبادة وتخفيف انفعالاته منها. أي أنّ الغرض ليس "كسب العقول والقلوب" لصالح جرائم الحرب بل تشتيت العقول عن إدراك فظاعتها وصرف القلوب عن التعاطف مع ضحاياها.
يتطلّب صرف الأنظار افتعال تطوّرات أو فتح ملفات صارفة عن الانشغال بالحدث المُراد التعمية عليه، فالردّ على دعاوى الإبادة الجماعية واقتراف جرائم حرب في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية يتطلّب شنّ حملة تشهير مضادّة ضدّ الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية المحترمة والمقرِّرين الدوليين لديها، بغرض إسكاتهم أو دفعهم إلى سلوك دفاعي. تبدو الحملة التحريضية ضدّ "الأونروا" سلوكاً مثالياً في هذا الشأن، فهي بمثابة هجوم مضادّ على الأمم المتحدة والهيئات الدولية من جانب، ويحقِّق مكاسب استراتيجية وتكتيكية يريدها الاحتلال الإسرائيلي الذي يعمل تقويض أسس الحياة بالنسبة للشعب الفلسطيني وإغلاق ملفّ حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين أيضاً، والتحريض ضدّ هذه الوكالة الدولية يحقِّق هذا الهدفان. يمكن القول أنّ القيادة الإسرائيلية ربحت الحرب على الأمم المتحدة ووكالة "الأونروا" التي خرجت من الميدان تقريباً.
من المهمّ اعتماد سلوك الإنكار، "فلا يوجد جوع في قطاع غزة، والصور والمقاطع المأساوية التي يراها العالم مفتعلة، حتى أنّهم في غزة ينعمون بالمأكولات البحرية الفاخرة"!. يمكن عرض قائمة طعام من مطعم في غزة مطبوعة في أوقات سابقة أو تلفيق صور ومشاهد معيّنة عن أطفال في غزة مع منح الانطباع بأنهم ينعمون بالعيش الرغيد كما لو كانوا في أحضان جبال الألب السويسرية.
وفي مواجهة ما يراه العالم عبر البثّ المباشر من أهوال التجويع يمكن تركيز الردّ على التشكيك في مصداقية صورة أو صورتين، بادِّعاء أنّ العظام الظاهرة من تحت جلد أحدهم "تعود إلى أمراض مزمنة"، فإثارة جدل حول صور محدّدة والتشكيك بمصداقيتها خير من الانشغال بطوفان الصور الواردة من الميدان، ومن شأن هذا التكتيك أن يفرض على المواقف المُحذِّرة من سياسة التجويع أن تلجأ إلى سلوك دفاعي للشرح والتوضيح بدل المرافعة الأخلاقية الواجبة ضدّ موت الأطفال والرضّع جوعاً.
لا غنى في "الدليل التطبيقي لممارسة الإبادة الجماعية في القرن 21" عن تكتيكات دعائية نمطية تدور حول لَوْم الضحايا بغرض تحميلهم المسؤولية عمّا يلحق بهم من فظائع، ويمكن التعبير عن ذلك باعتبار أنّ "العدوّ" هو السبب في ما يجري أو حتى المجاهرة باعتبار الشعب المُستهدف أو المجتمع المحلي مسؤولاً عمّا يُقترف بحقِّه لسبب أو لآخر، وطبعاً مع تبرئة الذات، أي القيادة الإسرائيلية وجيشها وسلطاتها، من أي مسؤولية عمّا تقترفه.
يمنح الدليل التطبيقي أفضلية للتصرّف التبريري الاستباقي، فقبل أن يشاهد العالم قصف المباني السكنية المرتفعة يتعيّن نسج قصص معيّنة، فهي ببساطة "تضمّ مراكز سيطرة للمسلّحين"، أو أنّ "فيها كاميرات مراقبة ترصد تحركات قواتنا وتمثِّل مخاطرة على جنودنا"، أو أنّ "صواريخ انطلقت منها".
هكذا يتيح الدليل التطبيقي تبرير أيّ جريمة حرب مهما بلغت فظاعتها، فمقولة أنّ الطرف الآخر "يتّخذ المدنيين دروعاً بشرية" هي ذريعة نمطية لاستهداف المدنيين، ويمكن استهداف المرافق المدنية ذات الحصانة بادعاءات سهلة من قبيل أنّ "المسلّحين يتحصّنون بالمدارس" أو "توجد مراكز قيادة تحت المستشفيات"، مع تقديم رسوم وخرائط وتلفيق معلومات وتفاصيل تمنح الانطباع بجدية الأمر. ثمّة مدخل أساسي يسبق ذلك، هو نزع الصفة المدنية وحتى الإنسانية عن الشعب المستهدف، عبر الإيحاء بأنّ الضحايا ليسوا مدنيين أو بتصويرهم في هيئة وحوش أو "زومبي" لأجل استسهال "اصطيادهم" وقتلهم جماعياً.
الفكرة المركزية التي لا غنى عنها هي أنّك "الضحية" وليسوا هم، فاصطنع البكائية الملائمة لك وأظهر في هيئة من يستحقّ التعاطف المتواصل. وفي مواجهة المجتمع الدولي وجماهير العالم لابدّ من السعي المتواصل للتشويش على استيعاب الواقع لقطع الطريق على تشغيل الضمائر وتصاعد الغضب، وهذا يتطلّب المسارعة إلى ترويج تدفّقات لا تهدأ من الأخبار الملفّقة والتفاصيل المزعومة مع كلّ جريمة حرب وحشية تختطف الأنظار، ومواصلة هذا التشتيت الذهني إلى حدّ الإغراق.
من المهمّ أن يقتنع العالم في كلّ مرّة أنّ الفلسطينيين هم الذين يقصفون مستشفياتهم ويدمِّرون مدارسهم ويُطلقون النار على أمّهاتهم وأطفالهم ويوقعون ضحايا من طالبي المساعدات منهم. على ممثلي الضحايا ومَن يترافعون تضامناً معهم في منصّات العالم أن ينشغلوا بتفنيد طوفان المزاعم الذي لا يتوقّف وينصرفوا عن جوهر الموضوع وأصل القضية، وهذه هي حيلة وضع جدول الأعمال Agenda Setting وترتيب أولويات الاهتمام. ستكتشف بالتالي أنّ بوسعك تبرير قتل حشود من الأطفال بين خيام النازحين عبر حبكات مثالية للتنصّل من المسؤولية عن جريمة الحرب هذه، مع إظهار الأسى الشكلي عليهم إن تطلّب الأمر.
ينبغي تعميم مضامين الخطاب المتجددة التي ستدفع بها دعايتك كي يتلقّفها من يكسبون خبزهم اليومي من الترافع لصالحك في منصّات إعلامية وسياسية على جانبي الأطلسي.
ومن قواعد الإدارة الدعائية للإبادة حسب دليل العمل الإسرائيلي للقرن الحادي والعشرين: "اقترف الفظائع واعتبرها ضرورية"، وفي تفاصيلها: "كُن صريحاً وجريئاَ. جاهر باقترافك الفظائع وعزمك على مواصلة ذلك بلا هوادة، لكن عليك اعتبار ذلك ضرورة لابدّ منها. قُل مثلاً: إنْ لم نَقُم بذلك سنواجه تهديدات ماحقة، إنهم يريدون إبادتنا وعلينا التصرّف، لن نتهاون مع أي تهديد لأمن مواطنينا". وفي محاولة لإسكات المسؤولين الغربيين تحديداً يمكن القول: "نتصرّف كما فعلت دول العالم الحرّ عندما قامت بكذا أو كذا" مع الإشارة إلى وقائع أو أهوال معيّنة تخجل العواصم الغربية من استرجاع ذكراها من الماضي القاتم.
توجد قاعدة عملية أخرى هي "التركيز على تبرير الجريمة الأولى"، وهي تتطلّب العناية بتقديم سردية تبريرية لكلّ جريمة حرب جديدة تُقترف، وتضمين حبكات فعّالة في هذا السياق، وقد يتطلّب ذلك شنّ حملة دعائية لهذا الغرض تقوم على تلفيق حكاية معيّنة أو اختلاق ذرائع، طبعاً مع الادعاء أحياناً بفتح "تحقيق للوقوف على حقيقة ما جرى"، وهذا مهمّ لتبريد ردود الفعل على فضيحة ميدانية لا يمكن تبريرها. وما إن يقع تبرير الجريمة الأولى، مثل قصف مستشفى أو تجمّع لمنتظري المساعدات الإنسانية أو قتل موظّفين وطواقم في هيئات دولية وإنسانية؛ فإنّ النجاح في تسويغها وامتصاص الغضب العالمي عليها وتبريد الموقف المترتِّب على ذلك؛ سيفتح الباب أمام تكرار جرائم مماثلة تقريباً لأنها تصير معتادة.
مع التكرار والاعتياد لن يتطلّب الأمر مزيداً من التعبئة الدعائية الداعمة لارتكاب هذه الجرائم المتماثلة، ذلك أنّ الذائقة العالمية تكون قد تكيّفت معها والحسّ العامّ قد تطبّع معها. وطالما أنّهم في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وروما يحتفظون بهدوئهم الاعتيادي ولا يفرضون عقوبات جادّة عليك مهما اقترفت من فظائع؛ فإنّ ذلك يمنحك الضوء الأخضر للاستمرار بلا هوادة.
والآن يمكن تطبيق ذلك في الحالات التالية: "كيف تبرِّر قصف مستشفى في القرن 21؟ ماذا ستقول للعالم عندما تقصف مدرسة أو روضة أطفال؟ ما الذريعة المناسبة لسحق مسجد أو كنيسة أو ديْر قديم أو معالم أثرية؟ كيف تشرح للعالم إقدام جيشك على تجريف مقبرة واقتلاع الأموات من مدافنهم؟".
يمنح الدليل التطبيقي أفضلية للتصرّف التبريري الاستباقي، فقبل أن يشاهد العالم قصف المباني السكنية المرتفعة يتعيّن نسج قصص معيّنة، فهي ببساطة "تضمّ مراكز سيطرة للمسلّحين"، أو أنّ "فيها كاميرات مراقبة ترصد تحركات قواتنا وتمثِّل مخاطرة على جنودنا"، أو أنّ "صواريخ انطلقت منها".
يا لها من حيلة سهلة! ولاستكمال حملات التطهير العرقي فإنّ عمليات الطرد القسري للأهالي يتعيّن تسميتها "تحذيرات من البقاء في أماكن عمليات قتالية خطرة"، أو "توجيهات للسكان بالانتقال إلى أماكن آمنة حفاظاً على سلامتهم"، وبالطبع بوسعك قصف تجمّعاتهم وخيامهم بالذرائع المألوفة في أي مكان. أمّا تجويعهم وحرمانهم من مقوِّمات الحياة الأساسية بما فيها متطلّبات الرعاية الطبية وحليب الأطفال والمستلزمات النسائية ومياه الشرب فتبريره سيكون أسهل، بالحديث مثلاً عن أنّ "المسلّحين يسرقون المساعدات".
إنّ إرشادات تطبيق الإبادة الجماعية في القرن 21 تتطلّب مواصلة التذرّع بالقيم والمبادئ والشعارات وتمثيل "الحضارة ضد البربرية" و"صراع الخير ضد الشرّ" و"المواجهة بين قوى النور وقوى الظلام"، لكن مع تحاشي التفوّه بكلمات مثل: "القانون الدولي"، "اتفاقيات جنيف"، "حقوق الإنسان"، فالغاية هي أن تضع نفسك فوق القانون الدولي والمواثيق الإنسانية، ولأجل هذا من المهمّ تضخيم سرديّتك الملفّقة، واستدعاء حكايات تاريخية سابقة على وضع المواثيق الدولية بالحديث المستمرّ عن "آلاف السنين" التي مضت أو التذكير بحكايات قديمة أو نصوص مقدّسة كي تتجاهل المواثيق البشرية اليوم. مع ذلك يتعيّن توظيف "خبراء" في القانون الدولي، شرط أن يكونوا منزوعي الضمائر، ليقوموا بوظيفة الترافع في المنصّات الإعلامية والدولية نيابة عنك، وشرعنة كافة جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي تنوي الإقدام عليها.
وفيرة هي قواعد العمل والإرشادات التطبيقية والتفاصيل الإجرائية التي يتضمّنها دليل الإبادة الجماعية المقترح على المجتمع الدولي في القرن 21، لكنّ التذكير واجب بأنّ العمل بمقتضاها يتطلّب في الأساس دعماً استراتيجياً من عواصم النفوذ الغربي، كي تتولّى منصّاتها التستّر على فظاعات متلاحقة كهذه مرئية للعالم أجمع، وقد يكون تطبيق هذا الدليل امتيازاً حصرياً للقيادة الإسرائيلية.
ترجمة خاصة عن "
ميدل إيست آي"