في الذكرى الأولى لانفجارات أجهزة النداء واللاسلكي (البيجر) التابعة لحزب الله، التي وقعت في 17 و18 أيلول/ سبتمبر 2024 وهزّت كلاً من لبنان وسوريا، لا تزال مشاهد ذلك الحدث الصادم حاضرة بقوة في ذاكرة اللبنانيين. فقد شهدت مناطق متعددة من البلاد سقوط مفاجئ لأشخاص داخل منازلهم أو على الطرقات، بعدما تعرضوا لإصابات مروّعة: فقد بعضهم أصابعهم، وفُقئت أعين آخرين، فيما أصيب كثيرون بجروح خطيرة في الأجزاء العلوية من أجسادهم.
الكثير من
اللبنانيين ما زالوا على طريق التعافي من تلك التفجيرات عبر خضوعهم لعمليات جراحية
في محاولة لعلاج ما أصابهم من تشوهات وفقا لوكالة
رويترز، فيما يطرح آخرون تساؤلات
بشأن أسباب اختراق الاحتلال الإسرائيلي غير المسبوق لبنية حزب الله.
كذلك، تُطرح التساؤلات يحسب الوكالة نفسها، عن: "حجم الثغرات الداخلية
التي سهّلت على "تل أبيب" تنفيذ عملية استخباراتية، فتحت الباب أمام تحول دراميتكي أشعلت
بعدها حرباً واسعة، قبل أن تليها سلسلة عمليات طاولت أبرز قادة الحزب، على رأسهم
أمينه العام حسن نصر الله، الذي اغتيل يوم الجمعة في 27 أيلول/ سبتمبر 2024، إثر
عشر غارات إسرائيلية استهدفت مقرِّ الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت".
وفي السياق نفسه، تعدّدت
التفسيرات حول كيفية حصول تفجيرات الـ"بيجر"، ما بين زرع متفجرات خلال
التصنيع أو التوريد، واختراق في الموجات اللاسلكية سمح بتفجير الأجهزة عن بُعد، أو
حتى عبث مباشر بالأجهزة نفسها، فيما أفاد تقرير لوكالة "رويترز" أنّ: "البطاريات المزوّدة لأجهزة "البيجر" وصلت إلى لبنان مطلع العام 2024،
ضمن خطة إسرائيلية تستهدف تدمير حزب الله، موضحًا أن تلك البطاريات صُمّمت بخصائص
خادعة تجعل من الصعب اكتشافها".
وبحسب الوكالة،
احتوت البطارية المصممة خصيصًا لأجهزة "البيجر" على حمل متفجرات
بلاستيكية صغيرة مع صاعق مدمج، وصُمّمت بطريقة تخفي وجودها عن أجهزة الفحص بالأشعة
السينية، ما جعل اكتشافها أمراً بالغ الصعوبة، وأنشأ عملاء الاستخبارات سلسلة
متاجر وصفحات إلكترونية وهمية كغطاء لتضليل حزب الله وإبعاد أي شكّ في مصدر
الأجهزة.
ورغم تعدد
الروايات، إلا أن العملية شكّلت مستوى غير مسبوق من القدرة التقنية والاستخباراتية
لدولة الاحتلال الإسرائيلي، مقارنة بعملياتها التقليدية، وهو ما لفتت إليه صحيفة "معاريف" العبرية،
قائلة إن: "العملية المتطورة، التي استغرق التخطيط لها عقدًا من الزمن، وجّهت
ضربةً موجعةً لأقوى وكلاء إيران في لبنان، وألحقت ضررًا بالغًا بالقدرات اللوجستية
لحزب الله".
أول ظهور لمنفذي
عملية "البيجر"
بعد حظر حزب
الليكود على أعضائه الإدلاء بتصريحات وإجراء مقابلات بشأن تفجيرات لبنان لفترة من
الزمن، إلا أن في الـ4 من أيار/ مايو 2025، كان أول ظهور علني لعملاء جهاز الموساد
الإسرائيلي الذين نفذوا عملية "البيجر" في لبنان، والتي أُطلق عليها اسم
"عملية النداء القاتل"، حيث احتفى الاحتلال بعملاء الموساد في حفل تكريم
نادر لهم بالتزامن مع الذكرى السنوية للنكبة الفلسطينية عام 1948.
ويشكل هذا
الظهور اعتراف رسمي بدورهم في عملية "البيجر" التي استهدفت عناصر حزب
الله في لبنان وسوريا، واعتلى العملاء لمنصة الحفل مثلمين ولم يُعرفوا عن أنفسهم
إلا بالأحرف الأولى لأسمائهم "ر"، و"د"، و"ن".
اعترافات
علنية بالـ"إهمال"
الأمين العام
لحزب الله، نعيم قاسم، استبعد في تموز/ يوليو الماضي، وجود اختراق بشري على مستوى
القادة، نافيا تورط قادة من الحزب بالعمالة للاحتلال، لكنه أقر بوجود ثغرة في شبكة
الاتصالات، مكنت قوات الاحتلال الإسرائيلي من التنصت بشكل "شبه شامل"، لدرجة بات العدو
يمتلك كماً ضخماً من المعلومات عن التحركات والقدرات الميدانية للحزب.
وأضاف قاسم،
أنّ: "لجنة التحقيق التي شُكلت، أكدت بأن المتفجرات داخل الأجهزة كانت من نوع
استثنائي لا يمكن كشفه بالآليات التقليدية، محمّلًا المسؤولية لثغرات في آليات
الشراء وسلسلة التوريد".
ولكن لم يتوقف
الجدل عند حدود التحقيقات الداخلية، بل امتد ليأخذ منحى أعمق مع تصريحات لاحقة وصفت بكونها "أكثر جرأة"، حين أقرّ مسؤول الموارد والحدود في حزب الله نواف الموسوي، في آذار/مارس
2025، أنّ: "ما حصل لم يكن وليد تفوّق استخباراتي إسرائيلي فقط، بل نتيجة
"ثغراتنا وإهمالنا"، مضيفًا أن نقاط الضعف كانت "كبيرة وخطيرة".
وبحسب وكالة
"أسوشيتد برس"، كان الحزب قد طلب 15 ألف جهاز نداء، وصل منها 8 آلاف
فقط، ووزّع نصفها على أعضائه، أما الشحنة الثانية فصودرت في تركيا بعد الهجمات، واعترف
مسؤول في الحزب قائلا: "إنّ شراء الأجهزة المزوّرة كان نتيجة إهمال".
تورط إيران
بشراء الـ"بيجر"
في أيلول/ سبتمبر
2024، كشف عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، أحمد بخشايش
أردستاني، لموقع " ديدبان إيران"، أنّ: "طهران شاركت في شراء أجهزة
الاستدعاء لحزب الله اللبناني التي انفجرت بشكل جماعي".
وأضاف: "لا شك أن طهران متورطة في شراء هذه الأجهزة، لأن السفير الإيراني في
بيروت كان يحمل أحدها"، مشيرا إلى أنّ: "الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي
استخدم جهازًا مشابهًا"، وألمح إلى أن جهاز النداء الخاص به ربما فُجّر عن بُعد
أثناء وجوده على متن المروحية التي تحطمت ومات جميع من كانوا على متنها.
إلى ذلك، أقر أردستاني
باختراق دولة الاحتلال الإسرائيلي لصفوف حزب الله في لبنان، بعد أن علمت باجتماعات كبار قادته،
واستطاعت زرع متفجرات في آلاف من أجهزة اتصالاتهم".
وهنا تتضح بعض
الحقائق بشأن إمكانية وجود إهمال في اتخاذ إجراءات احترازية بحسب مراقبين، حيث سبق
وقال نتنياهو في كلمة ألقاها خلال مؤتمر نظمته وكالة الأنباء الأمريكية-اليهودية
في أيار/ مايو الماضي: "قصفنا جهازًا لفحص المتفجرات كان من المقرر نقله من
إيران إلى لبنان لاختبار أجهزة البيجر".
وأضاف: "تبين لنا أنهم كانوا
يرسلون هذه الأجهزة لاختبارها في إيران، وحين سألت كم من الوقت سيستغرقهم لاكتشاف
أنها مفخخة؟ فأجابوني: يوم واحد فقط.. وعليه أمرت بالتحرك الفوري".
"إسرائيل" وشبكات الاتصالات
بالتزامن مع
مرور عام على
تفجيرات البيجر، قال رئيس وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين
نتنياهو، إن: "كل من لديه هاتف محمول هو في الحقيقة يحمل قطعة من إسرائيل بين
يديه".
جريمة رضخت
لها بيروت
منظمات حقوقية
أدانت تفجيرات البيجر، والتي أودت بحياة 12 شخصا بينهم طفلان وإصابة نحو ثلاثة
آلاف آخرين، حيث عدتها عدوانًا عشوائيا غير مبرر، وقال رمزي كايس من منظمة هيومن
رايتس ووتش، إن: "هذه الهجمات قد ترقى إلى مستوى جرائم حرب", ووصف
الهجوم بأنه "عشوائي وغير قانوني" لأن القانون الإنساني الدولي يحظر
استخدام العبوات الناسفة.
ورغم دعوات
المنظمات الإنسانية لفتح تحقيق مستقل بالهجوم، إلا أن الحكومة اللبنانية ألغت
قرارا سابقا، دعت فيه وزارة الخارجية تقديم إعلان إلى المحكمة الجنائية الدولية، لمنحها
الاختصاص القضائي للتحقيق في جرائم الحرب المزعومة على الأراضي اللبنانية وملاحقة
مرتكبيها، والسبب هو مخاوف بيروت من أن يمتد عمل الجنائية الدولية إلى قضايا لا
يرغب لبنان بالضرورة في فحصها، بحسب الـ
بي بي سي.
كانت تفجيرات البيجر الضربة الافتتاحية في حملة عسكرية
واستخباراتية شلّت مفاصل الحزب، وأثارت شعورًا بالهشاشة داخل بنيته، فقدت القيادة
جزءًا من شبكاتها الميدانية، وأصبحت الاتصالات نفسها سلاحًا ضدها.
وكانت بعض
التقارير تحدّثت عن أن دولة الاحتلال الإسرائيلي أبقت خيار تحويل أجهزة الاتصال إلى قنابل كامنة
لاستخدامها مستقبلًا إذا لزم الأمر، وفي هذا الإطار، قال عضو المجلس السياسي في
حزب الله غالب أبو زينب، إن "عملية البيجر كانت دون شكّ مؤلمة".