في 15 أيلول/سبتمبر الجاري، أثارت تصريحات رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو جدلا واسعا، بعد أن زعم خلال زيارة لنفق تهويدي قرب المسجد الأقصى، برفقة وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان السبب وراء عدم تسليم
تركيا ما يُعرف بـ"
نقش سلوان" للاحتلال الإسرائيلي.
وأوضح نتنياهو أن محاولته الأولى للحصول على اللوح الحجري تعود لعام 1998، حين عرض على رئيس الوزراء التركي آنذاك مسعود يلماز مبادلة النقش بأي قطعة أثرية عثمانية موجودة في
القدس، لكنه رفض بسبب "غضب شعبي متوقع يقوده أردوغان، حين كان رئيسا لبلدية إسطنبول".
جاءت تصريحات نتنياهو خلال فعالية أُطلق عليها اسم "افتتاح النفق القديم" داخل القدس المحتلة٬ وألقى فيها خطابا شديد اللهجة أشار فيه إلى أن القدس، بدعم أمريكي، هي عاصمة الاحتلال الإسرائيلي ولن تقسم أبدا، مشددا على عدم وجود ما يُسمى "الدولة الفلسطينية".
ووجه نتنياهو كلامه مباشرة إلى أردوغان قائلا: "سيد أردوغان، القدس لنا، وستبقى لنا إلى الأبد ولن تقسم".
وفي إطار حديثه عن نقش سلوان، استعرض نتنياهو قصة اللوح الحجري القديم، الذي يزعم أنه يثبت أن القدس يهودية. وقال إن النقش موجود في تركيا لكنه لم يتمكن من الحصول عليه بسبب موقف أردوغان. وأضاف: "منذ تلك اللحظة، انصب اهتمام الحضور والإعلام على قصة النقش أكثر من التركيز على تصريحاته السياسية."
تاريخ نقش سلوان والنفق
نقش سلوان يعود إلى ما قبل نحو 2725 عاما، ويحكي كيف حاول سكان القدس في تلك الفترة تأمين المياه لسكان المدينة عبر حفر نفق يربط المدينة بنبع سلوان الواقع في وادي قدرون بالقدس المحتلة.
وقد اكتمل شق النفق وأدخلت المياه إلى المدينة، وعلى مدخله نقش حجر كلسي يوثق عملية الحفر.
لكن القراءة التاريخية للنقش وفق الباحث الفلسطيني تيسير خلف تشير إلى أن النقش لا يُظهر أي علاقة بالملك
اليهودي حزقيا أو الملكية اليهودية للمدينة كما يدعي اليهود، بل يُثبت أن عملية الحفر تمت ضمن الهيمنة المصرية على القدس، وأن المدينة كانت جزءًا من الفضاء الثقافي المصري القديم، وليس ضمن ملكية يهودية. ويؤكد خلف أن الحروف المنقوشة تنتمي للعصر الحديدي، وليس للفترة الهلنستية كما يزعم بعض الباحثين.
أعيد اكتشاف النقش عام 1880 أثناء أعمال التنقيب في موقع النبع خلال العهد العثماني، ثم نُقل إلى إسطنبول وأُدرج في سجل متحف همایون، المعروف اليوم باسم متحف إسطنبول للآثار عام 1882.
وعلى مدى السنوات، سعى الاحتلال الإسرائيلي لاستعادته، آخرها في آذار/مارس 2022 بعد زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لأنقرة، لكن تركيا رفضت رسميا، مؤكدة أن اللوح لا يمكن إخراجه.
الادعاءات الإسرائيلية والتحريف التاريخي
رواية نتنياهو حول موقف تركيا وفترة رئاسة أردوغان لبلدية إسطنبول تعرضت للتشكيك من عدة مصادر، بينها شهود تلك المرحلة، مثل النائب السابق فيضي إيشباشاران، الذي نفى وقوع الحوار المذكور، معتبرا أن نتنياهو اختلق القصة لتشويه صورة رئيس الوزراء التركي السابق مسعود يلماز.
وبالمقابل، من الثابت أن الاحتلال الإسرائيلي تقدم مرارا، عبر قنوات رسمية وغير رسمية، بطلبات للحصول على اللوح الحجري، لكن رفض تركيا كان دائما مبنيا على أساس قانوني وتاريخي، لا على موقف سياسي فردي.
فالنقش اكتُشف في الحقبة العثمانية في الأراضي الفلسطينية ويعد جزءا من التراث الثقافي والتاريخي للقدس وبالتالي لا يمكن نقله لدولة ثالثة مثل الاحتلال الإسرائيلي.
ويرى مراقبون أن محاولة نتنياهو ربط النقش التاريخي بالسيادة الإسرائيلية تمثل جزءا من استراتيجية طويلة الأمد لشرعنة الاحتلال عبر روايات تاريخية انتقائية، متجاوزا الأدلة الأكاديمية والبحوث المستقلة، بما في ذلك الدراسات الفلسطينية والتوراة التي تشير إلى أن النفق كان تحت إشراف السلطة المصرية القديمة، وليس ملكا للملوك اليهود.
قراءة أثرية مختلفة
وفقًا للباحث تيسير خلف، فإن القراءة الدقيقة للنقش تُظهر أن القدس في تلك الفترة كانت مدينة كنعانية خاضعة للهيمنة المصرية، وأي ادعاء بملكية يهودية للمدينة في عهد حفر النفق هو تحريف تاريخي.
ويضيف خلف أن الحروف الفينيقية -الكنعانية- هي ما يظهر النقش، وليس الكتابة العبرية المتأخرة، وأن الكتابة اليونانية لم تكن موجودة إلا في العهد الهلنستي بعد نحو 500 عام، ما يجعل الرواية الإسرائيلية عن "نقش سلوان" محاولة لإسقاط ملكية تاريخية يهودية على المدينة بصورة غير دقيقة.
تكشف قصة "نقش سلوان" جانبا من سياسات الاحتلال الإسرائيلي لشرعنة احتلال القدس باستخدام روايات تاريخية مختلقة أو مشوهة، وتبرر عبرها استيطانها وتوسعها في المدينة.
ويؤكد الخبراء والباحثون الفلسطينيون أن النقش جزء من التراث الفلسطيني والكنعاني-المصري القديم، وأن أي مطالبة إسرائيلية به لا تستند إلى حقائق تاريخية، بل إلى أيديولوجيا سياسية تسعى لتدعيم الرواية الإسرائيلية حول ملكية القدس.
وبحسب إدارة متحف إسطنبول للآثار٬ فبعد تصريحات نتنياهو قامت الإدارة برفع اللوح من العرض ووضعه في حيازة جهاز الاستخبارات الوطني التركي من أجل تأمينه وضمان حمايته.