كتاب عربي 21

عبد الناصر الحاضر أبدا!

"حضر جمال عبد الناصر لساحة الجدل السياسي، بين مؤيد ومعارض، وبين من يرفعه لعليين ومن ينزله لأسفل سافلين، وهي حالة لم تحدث لرئيس مصري آخر"- جيتي
وكأنه مات بالأمس، ولم يمر على وفاته خمسة وخمسون عاما بالتمام والكمال!

فبمناسبة ذكرى وفاته، حضر جمال عبد الناصر لساحة الجدل السياسي، بين مؤيد ومعارض، وبين من يرفعه لعليين ومن ينزله لأسفل سافلين، وهي حالة لم تحدث لرئيس مصري آخر؛ فلم يكن السادات موضوعا في أي ذكرى تخصه، والأمر نفسه يسري على الرئيس مبارك، الذي قامت عليه ثورة تخطى فيها الرقابَ من لم يكونوا أوفياء لها، فلم نعد نسمع سوى محاسنه، حتى تبدو كهبّة من شباب طائش لا يعرف مصلحته، فلا ذكر لمساوئ حكمه، ولا جدل مع الذين يرفعون من قدره!

ولم يحكم عبد الناصر ثلاثين سنة، فحكمه تجاوز الستة عشر عاما بشهور قليلة، من آذار/ مارس 1954، إلى أيلول/ سبتمبر 1970. وعندما قامت ثورة يوليو (تموز) لم يكن عبد الناصر نجمها اللامع لدى الناس، فقد كانت الشعبية الجارفة للرئيس محمد نجيب، الذي غيّبه عبد الناصر وزملاؤه في مجلس قيادة الثورة، قبل أن يتخلص منهم عبد الناصر واحدا تلو الآخر، فلم يحكم منفردا سوى لعامين أو ثلاثة أعوام، على غير ما هو شائع. ولم يُبقِ سوى على اثنين منهم، ظنّا منه أنهما يفتقدان للأهمية، فصدق مع الأول (حسين الشافعي)، ولم يصدق مع الثاني وهو السادات، الذي كان لابدا في الذرّة، يربط الحمار في المكان الذي يريد صاحبه، إلا أن جاءته الفرصة فاغتنمها!

دهشتي لهذا الحضور للرئيس جمال عبد الناصر، ربما تعادل دهشته للجنازة الحاشدة لزعيم الأمة مصطفى النحاس، وبدون إعلان، بعد ثلاثة عشر عاما من التغييب القسري، وبلغت المهزلة قمتها باعتقال عدد كبير من المشيعين بتهمة المشاركة في الجنازة

دهشتي لهذا الحضور للرئيس جمال عبد الناصر، ربما تعادل دهشته للجنازة الحاشدة لزعيم الأمة مصطفى النحاس، وبدون إعلان، بعد ثلاثة عشر عاما من التغييب القسري، وبلغت المهزلة قمتها باعتقال عدد كبير من المشيعين بتهمة المشاركة في الجنازة، ونُقل عن عبد الناصر قوله: بعد كل ما حدث لا يزال الناس يتذكرون النحاس؟!

وما حدث لم يكن مجرد التغييب فقط، وإنما كانت حملة تشويه للنحاس والوفد، ولم تقتصر على الإعلام فقط وإنما امتدت لكتب التاريخ المقررة على المدارس وبواسطة الدراما. وفي المقابل، فلم يكن عبد الناصر مجرد حاكم مفلس بنى شعبيته على إمكانيات السلطة في الاستبداد والقمع، فقد كان صاحب مشروع في البناء، ومنحازا بشكل أساسي للفقراء وأبناء الطبقة الكادحة، بجانب كونه مثّل عنوانا للاستقلال الوطني!

التشهير لا يقضي على الخصم

ولعلنا هنا نكون أمام معادلات مهمة؛ فالتشويه والتغييب لم يقضِ على الوفد، الذي عاد قويا مهابا بعد سنوات من ذلك، تماما كما أن التنكيل بالإخوان وتشويههم إعلاميا لم يمنع من أن يكونوا الرقم الصحيح عندما سنحت لهم الفرصة، والأمر نفسه يسري على عبد الناصر، الذي صدرت ضده كتب تكفي لتشويه ملاك، ومع ذلك ظل حاضرا رغم مرور خمسة وخمسين عاما على وفاته، مع أن الحملة عليه بدت ممنهجة، وتعقّبته في كل المجالات، مع النظر إليه باعتباره الشيطان الرجيم!

لم تستثنِ هذه الحملة الذمة المالية لعبد الناصر، فقد تم الطعن فيها، واتهم بتقاضي أموال من ملك السعودية لم يودعها في حساب الدولة، على النحو الذي أذاعه جلال الدين الحمامصي، وكان موضوعا لتحقيقات المدعي العام الاشتراكي. وامتد الطعن إلى ذمته الوطنية، وكيف أنه عميل أمريكي زرعته إسرائيل في الجيش المصري. بيد أن أحدا لم يعد الآن يقول إن أصوله يهودية، وقد كان هذا يتردد إلى سنوات قليلة مضت، في ظل هذا الاستقطاب السياسي الحاد، فهو ابن حارة اليهود.

لم نتعلم الاختلاف الموضوعي؛ فلا بد من شيطنة الخصم وتقديمه على أنه الشيطان الرجيم لنتمكن من الانقضاض عليه. وقد فزعنا عندما صدر كتاب محمد جلال كشك "ثورة يوليو الأمريكية"، لكن الأجيال التي عاصرت الثورة كانت أكثر استيعابا للأمر من جيلنا. وأذكر أنني قمت بتحقيق صحفي حول هذا الاتهام، ولعله المستشار الدمرداش العقالي، الذي قال لي: عندما قامت الثورة كان هناك توافق على الأهداف بينها وبين الأمريكان، وليس اتفاقا عليها.

ولا يزال البعض إلى الآن يفتش في الكتب فيخطف مثل هذا المعنى عن العمالة للأمريكان ثم يروّج لها، ولا أعرف لمصلحة من يتم تضخيم الدور الأمريكي، ودعم الدعاية الإسرائيلية التي صنعت من إسرائيل أخطبوطا قادرا على فعل أي شيء في أي وقت، لدرجة أنها زرعت عبد الناصر داخل الجيش المصري ورعته كل هذه السنوات، ثم حطمته بعد ذلك بهزيمة 1967!

أمريكا زعيمة العالم الحر

الثورات ليست مباراة لكرة القدم، ومن الطبيعي أن يُطمئن الثوارُ القوى الأخرى على مصالحها. وفي هذه الفترة، كانت أمريكا في طريقها لأن تحل محل بريطانيا، وكانت مع حق مصر في الاستقلال، ثم إنها لم تكن أمريكا التي ظهرت لنا بعد ذلك، وهي التي خاطبها الشاب الإخواني مصطفى مؤمن بأنها زعيمة العالم الحر، فهل زرعه الأمريكان في صفوف الإخوان؟

وإذا سرنا في هذا الطريق لنهايته، فالمعنى أن إسرائيل زرعت عبد الناصر في صفوف الإخوان أيضا، لنأتي إلى الحقيقة التي تتوافق الأطراف المختلفة على إنكارها!

لقد أفسد الناصريون الهدف من الجزء الثاني من مسلسل الجماعة، عندما هبّوا هبّة كبرى ضد كاتبه وحيد حامد؛ لأنه جاء فيه أن جمال عبد الناصر كان عضوا في جماعة الإخوان. وكان الهدف من المسلسل هو تشويه الإخوان، فقد أنكر الناصريون ذلك مع أن عضويته في الجماعة ونظامها الخاص ثابتة تاريخيا، ولا مجال لإنكارها، ويحفظ الناس لعبد الناصر قوله: أيها الإخوان أنا منكم!

بيد أن الطرفين بدا كما لو كانا لا يريدان هذه العلاقة. وقد كان الإخوان في القلب من ثورة يوليو، وضباطهم كان لهم دور مهم فيها، حتى بعد أن آثر عبد الناصر الابتعاد بتنظيم الضباط الأحرار عن الجماعة. وكل الاتجاه الاستبدادي لها بعد الثورة، من إقامة محاكم استثنائية، وحل الأحزاب، وعدم عودة الحياة النيابية، كان بمباركة الإخوان!

وإذ قرأت مؤخرا كتاب الإخواني التاريخي محمود عبد الحليم "الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ"، فقد انتهيت سريعا من جزئه الأول، لأقفز للجزء الثالث. فالإخوان داخل التنظيم ينصحون شباب الجماعة بقراءة الجزأين الأول والثاني، وعدم الاقتراب من الثالث. وعندما بدأت في قراءة هذا الجزء فهمت السبب، وهو الجزء الذي يؤرخ للمرحلة من 1952 إلى 1970. وضبطت نفسي مبتسما وأنا أقرأ وقائع محزنة، فقد كنت أمام صورة مشابهة لما حدث بعد ذلك مع اختلاف الشخصيتين؛ فهنا كان عبد الناصر الذي وعد قيادات الإخوان بإقامة الدولة الإسلامية، وهنا كان السيسي. ولعلهم لو طالعوا هذا الجزء لما كان للمؤمن أن يُلدغ من جحر مرتين!

ولم يتعلموا من هذا الدرس سوى كون عبد الناصر الذي انقلب على الإخوان وسامهم سوء العذاب، كان واحدا منهم انشق عليهم، وهذا المشهد فقط كان حاضرا وهم يتخذون قرارا بخوض الانتخابات الرئاسية حتى لا يفوز عبد المنعم أبو الفتوح ويكرر تجربة عبد الناصر!

الصراع على السلطة وليس العداء للإسلام

إن في إخفاء كتاب التاريخ ما مكن من تجاوز إخوانية عبد الناصر السابقة، وأن الإخوان كانوا شركاء فاعلين في حركة ضباط الجيش، سمِّها ثورة، سمِّها انقلابا، سمِّها الحركة المباركة، فكل هذه أوصاف رسمية لها. وأن انقلاب عبد الناصر على نجيب، ثم على كل زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة، هو جزء من سيناريو واحد بدأ بالإخوان، إنه الصراع على السلطة، والخوف من المنافسة عليها، واحتكار الزعامة. وقد يكون من السهل ادعاء أنه فعل هذا لأنه عدو للإسلام، إذن لماذا اعتقل الشيوعيين أيضا، واعتقل وغيّب الوفديين كذلك؟!

إن عبد الناصر كان زعيما وطنيا، ما في ذلك من شك، لكنه كان حاكما مستبدا ومتسلطا! وإن الإخوان جماعة وطنية، كانت ضد حكم الأغلبية لأنها كانت من نصيب الوفد، فانحازت للاستبداد! ولو كان ولاء الشيوعيين لقضية الديمقراطية بذات ولائهم لقضية الاستقلال الوطني، ما كانوا عونا للاستبداد، الذي قادنا للتبعية!

ولا يصح القول إن عبد الناصر عميل أمريكي، لأنه وقف ضد نفوذها عندما تبين له منهجها الإمبريالي، فلم تعد زعيمة العالم الحر كما خاطبها مصطفى مؤمن. وفي المرحلة الأولى، وعندما كانت إسرائيل مستوطنة أوروبية، وقفت معها فرنسا وبريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. وعندما استوت الإمبراطورية الجديدة على المنطقة، استولت على النفوذ الإنجليزي، وأخذت متعلقات الاستعمار، وإسرائيل ضمن هذه المتعلقات، فكان انحيازها الكامل لها في حرب سنة 1967. وكان عبد الناصر معاديا للاستعمار، وذهب لخارج الحدود ليواجهه، وكانت هذه واحدة من أخطائه، إذ دمر الجيش المصري في اليمن!

فلا يصح للداعم لثورات الاستقلال الوطني حيث وُجدت أن يكون زرعا شيطانيا غرسته إسرائيل في المنطقة، وتماما كما لم يكن الإخوان عملاء للإنجليز كما أذاعت الدعاية الناصرية، وتاريخهم في مقاومته يُذكر لهم فيُشكر!

بيد أن المشكلة أن التورط في الخطأ كان سببا في محاولة ستره، والذهاب إلى قواعد المظلومية لاتهام عبد الناصر بأنه عميل زرعته إسرائيل في المنطقة، وأن ثورة يوليو هي في الأصل والفصل من صنع المخابرات الأمريكية، وأن عبد الناصر فعل بهم ما فعل لأنه يكره الإسلام ويعادي رموزه!

في المرحلة المبكرة، فإن الطرفين -إن صح أن نطلق عليهما طرفين لا طرفا واحدا- ومعهما أمريكا زعيمة العالم الحر، كانوا ضد أن تحكم مصر حكما ديمقراطيا. ومن هنا كانت ثورة يوليو ثورة مضادة على ثورة 1919، التي كانت تحقق أهدافها بالتنقيط وليس بالغمر. وكان الاستقلال الوطني مسألة وقت، فكان لا بد من قوة عسكرية غاشمة، تلغي مبدأ حكم الشعب نفسه لنفسه، ليحكمه العسكر، فيستمر الإفقار بصورة أبشع!

إن عبد الناصر كان زعيما وطنيا، ما في ذلك من شك، لكنه كان حاكما مستبدا ومتسلطا! وإن الإخوان جماعة وطنية، كانت ضد حكم الأغلبية لأنها كانت من نصيب الوفد، فانحازت للاستبداد! ولو كان ولاء الشيوعيين لقضية الديمقراطية بذات ولائهم لقضية الاستقلال الوطني، ما كانوا عونا للاستبداد، الذي قادنا للتبعية!

تلك أمة قد خلت!

x.com/selimazouz1