قضايا وآراء

ماذا عن الفقراء؟ التماثيل التي ليس لها متحف في مصر

"التماثيل اليوم تُعالَج بحبٍّ واحتفاءٍ في متحف يُحاكي القصور، أمّا المواطن فلا يجد له سوى وعدٍ لا يتحقق، وحتى لم يعد الوعد يتردد"- جيتي
عند فتحة الأبواب الضخمة للمتحف المصري الكبير، يوم السبت الماضي، كانت أضواء الكاميرات تتسابق لالتقاط ضوء الذهب والأحجار القديمة، بظلالها الفخمة على ضفاف النيل بجوار المعمار التاريخي العظيم والضخم؛ الأهرامات. في ذلك المشهد الصاخب، وقف، كعادته مثلما فعل منذ سنوات عند حفل نقل المومياوات، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي متألقا بين شخصيات من كل حدب وصوب، يردّد بحماس مفردات "النهضة التاريخية" و"إرث الحضارات"، ويؤكد أن مصر تثبت للعالم عظمة أم الدنيا. ولكن، وسط زحمة الأغاني الوطنية وموسيقى الأوركسترا وكلمات الحمد، تبرز مفارقة حرجة: في هذا العرض الكبير للتراث الفرعوني، ما هي أحوال المواطنين؛ الشعب المصري؟

هناك حيث تختفي الأضواء، ينهض المصريٌّ في أول الضحى ليبدأ يومه المنهك في لقاء الذل المعيشي من أجل حياة بسيطة، وبينما تتسابق الوفود العالمية خلف نُصب تحتمس الثالث وكنوز الملك توت عنخ آمون، يعجز هذا المواطن عن توفير بديل صحي يناسب أولاده، وعن تسديد فاتورة طاقة جعلتها القرارات الاقتصادية فوق طاقة الفقراء،
التماثيل الملمعة لها متحفٌ فاخر، في حين أن الشعب المصري لا يجد متحفا يؤويه من عِفار الحياة. هذا ليس مجرد تشبيهٍ شعبيٍّ مأثور، بل حقيقة نراها بأم العين يوميا
ناهيك عن الطوابير الطويلة على الخبز المدعم أو الأدوية من المستشفيات العامة، وشكوى النساء المُثقلة بمشقة العيش فوق رؤوسهن؛ كل ذلك لا وجود له على شاشات هذا الحفل الباذخ، شاشات السُلطوية.

إنها سخرية الاستبداد: التماثيل الملمعة لها متحفٌ فاخر، في حين أن الشعب المصري لا يجد متحفا يؤويه من عِفار الحياة. هذا ليس مجرد تشبيهٍ شعبيٍّ مأثور، بل حقيقة نراها بأم العين يوميا. فالمتحف الجديد انتقل به الحاكم المصري القديم، الفرعون المُتجدد، من مملكة الرمال إلى قصرٍ من زجاجٍ ذهبي، بينما بقي المصري المعاصر محشورا بين تذاكر الأتوبيس اليومية وأقساط المدارس، وأتربة المعمار المُهدَّم، يبحث عن كرامة تكفل له حياة لائقة. في بلدٍ يفتخر تاريخه الحجري القديم، بات العيش اليومي وعبء المعيشة مثقلين بنفقاتٍ تفوق قدرات أصحاب الأجور الثابتة، فهم بالكاد يجدون قوتهم شبه محسوم للعجز كما نقرأ في سجلات الاقتصاد، ومعدلات الفقر التي تزداد عاما بعد آخر.

الأمر ليس هنا فقط؛ فكلما أعلنت الحكومة عن منتدى استثماري جديد أو احتفاء بإطلاق مشروع قومي، تتردّد في الشوارع حكايات عن مصاعب حقيقية. رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء، وتعويم الجنيه، وارتفاع أسعار السلع الأساسية كان له صدى بعيد في بيوت المصريين. خبرٌ هنا عن زيادة مفاجئة في فواتير الكهرباء تثير القلق، وهناك قرارٌ بإلغاء دعمٍ غذائيٍ أو دوائيٍ دون أن يشعر المواطن بأي مراعاة لظروفه، وبينما نسجت الكاميرات قصة إنجاز الحضارة القديمة، ظلت قصة المواطن نفسه تقتات على مزيجٍ من الكلمات الرنانة والإحصائيات الرسمية.

المفارقةُ أن السُلطة حين تبني هذا الصرح الفخم لتراثنا هي تبني أيضا سورا عازلا بينها وبين المواطن؛ تماثيل الملكة نفرتيتي أو إيزيس تبدو في المتحف بأبهى حلةٍ، وقد أُحيطت بعنايةٍ استثنائية، بينما يبقى المصري الذي جاهد ونافح من أجله التاريخ هو الغائب الأكبر والتمثال الصامت. وكم هو مُؤلم أن نسمع كلام القيادة عن "تثبيت الاقتصاد" و"تعزيز التضامن الاجتماعي" في وسائل الإعلام، فيما ترى جموع لا تجد الحرية في اقتناء أبسط سلعها.
لم يكن الحديث عن شوارعٍ مضاءة أو مدارسٍ جديدة، بل عن صالة عرض للماضي الزاهي، ماضٍ تُحب سُلطوية السيسي استرجاعه، وإعادة إحيائه، بهدف خدمة بقائها ولمعان صورتها بالإنجازات القومية والحضارية
صحيح أن بعض الأرقام الرسمية قد تُشير إلى انتعاشٍ نسبي أو تراجعٍ متواضعٍ في التضخّم، لكن ربات البيوت في الأسواق وحَمَلة الشهادات العاطلين في محطات النقل يتحدثون بلغة أخرى: لغة الحجر الذي يحتضن التاريخ أكثر من الجسد البشري اليوم.

هناك أيضا مَن يذكّرُ -وربما بسخريةٍ خفيفة- بأنه في العصر الفرعوني كان العمال يُدفنون مع فرعونهم عظمة وحلوى حرير، بينما في هذا الزمن يكافح العمال للوصول إلى نهاية الشهر دون أن تسلخ الكرامة عن نفوسهم. نتباهى في هذه الليلة الدولية بمخزونٍ من التاريخ يُبهِج الناظرين إلى عظمة الأسلاف، لكن هل حقا فاض قلبنا بالفخر أم أنه غُشيَ به فلم يعترف بأبناء هذا الحاضر؟ تتهاوى بعض الردود الشعبية الساخرة على مواقع التواصل: التماثيل اليوم تُعالَج بحبٍّ واحتفاءٍ في متحف يُحاكي القصور، أمّا المواطن فلا يجد له سوى وعدٍ لا يتحقق، وحتى لم يعد الوعد يتردد.

الليلة لم يكن الحديث عن شوارعٍ مضاءة أو مدارسٍ جديدة، بل عن صالة عرض للماضي الزاهي، ماضٍ تُحب سُلطوية السيسي استرجاعه، وإعادة إحيائه، بهدف خدمة بقائها ولمعان صورتها بالإنجازات القومية والحضارية؛ من قناة السويس إلى نقل المومياوات وصولا إلى المتحف المصري الكبير. ربما لا يزال البعض يصدق أن ضخ مشروع فخم كهذا سينشط السياحة ويرد رصيدنا الأجنبي، لكن السؤال يبقى: ما قيمة غنائم الذاكرة إن فقدنا أحباءنا في خضم المعاناة اليومية؟ إن نحتَ الأحجار وضخ الدماء في معبدٍ من إسمنتٍ وألوان، لن يُعيد الرونق لعيونٍ غرقت بالغُبار والجوع والاشتياق للحرية. إذا كان المتحف يجسّد عمق ماضينا، فإنّ الشعب يحلم بمستقبلٍ لا أفق له، مستقبل فُقِد الأمل في تحقيق وجوده.