كتب

من الخوف إلى الفظائع.. كيف تصنع سرديات التوجس طريق الإبادة؟ قراءة في كتاب

يرى دينق في مقدمته أن الدراسات في الكتاب تميل في مجملها إلى إعطاء أهمية كبرى إلى إجراءات الوقاية، وهو لا يشكك في أهمية ذلك، غير أنه يلفت إلى أن "بذور الفظائع تُبذر على مستوى بناء الهويات"..
يرى دينق في مقدمته أن الدراسات في الكتاب تميل في مجملها إلى إعطاء أهمية كبرى إلى إجراءات الوقاية، وهو لا يشكك في أهمية ذلك، غير أنه يلفت إلى أن "بذور الفظائع تُبذر على مستوى بناء الهويات"..
الكتاب: كوابيس الإبادة، سرديات التوجس ومنطق الفظائع الجماعية
المؤلف: مجموعة مؤلفين
تحرير: عبد الوهاب الأفندي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي، عبد الوهاب الأفندي


ما الذي يدفع الأشخاص العاديين للانخراط في الأعمال العنفية؟ وما الذي يجعلهم ينظرون إلى هذه الأعمال المتطرفة باعتبارها سلوكا مقبولا، بل ضروريا وبطوليا؟ يحاجج المشاركون في هذا الكتاب بأن "سرديات انعدام الأمن" التي يُروّج لها البعض ويصدقها الكثيرون تدفع بقوة، وسهولة أيضا، في غالب الأحيان إلى تبني منهجا عنيفا، سواء من قبل الأنظمة أو الجماعات أو الأفراد، قد يصل إلى ارتكاب الإبادة، خاصة إذا رُوجت هذه السرديات على أساس الهوية. ويشير عبد الوهاب الأفندي، أستاذ العلوم السياسية، في مقدمة الكتاب إلى أن الشعور بانعدام الأمان قد يكون حقيقيا وقد يكون مفتعلا، وهنا تأتي أهمية السرديات التي تؤطر هذا الخوف أو تخلقه. إذ "تجعل من العادي جريمة أو خطرا، ومحض الهوية المخالفة جريرة".

المشاركون في الكتاب يمثلون بلدانا وتخصصات مختلفة، ودراساتهم التي قدموها تميل إلى تصديق فرضية أن سرديات التوجس هي ما يفسّر هذا الانخراط المكثف في العنف، سيما في دول مثل يوغوسلافيا(سابقا) والهند، والعراق، ونيجيريا، والسودان، وإسرائيل، والدول الغربية المتأثرة بالإسلاموفوبيا. وأخطر ما في المسألة أن هذه السرديات "قد تقنع قطاعات واسعة من الجمهور. والتصرف على أساس هذه المخاوف قد يخلق خطرا حقيقيا، لأن الجهات المتضررة ستدافع عن نفسها. وهنا تصبح السرديات هذه ذاتية التصديق.. ومسوغا لمزيد من العنف والقهر".

يقول الأفندي إن ما يحدث في غزة اليوم أكسب "سرديات الفزع" هذه بعدا جديدا، إذ صورت إسرائيل هجوم السابع من أكتوبر باعتباره أكبر تهديد لوجودها، وسوّغت بذلك الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة. ووجدت لهذه السردية "الخرافية" حلفاء ومتضامنين من معظم الدول الغربية، إذ كيف لجماعة مسلحة هامشية ومحاصرة أن تهدد وجود دولة تمتلك واحدا من أقوى الجيوش في العالم! لكننا، كما يقول، مجبرون على العيش في عالم خيالي، أصبح فيه محترف الاضطهاد ونهب الأراضي هو الضحية، أما المقهور المعذب فهو التهديد.

يرى الأفندي أن سرديات الأمننة يمكن أن تكون ضرورية لصحة المجتمعات وسلامتها، إلى حد ما. وأنها في المجتمعات الديمقراطية تخضع باستمرار للنقد والمراجعة، و"هذا هو السبب في أن سرديات الإسلاموفوبيا لم تثر الأمننة المفرطة المزعزعة للاستقرار. فقد ظلت تحت السيطرة إلى حد معقول".
يذكر أن الأفندي كان يعمل على تطوير الفكرة الأساسية للكتاب منذ عقود عنما وضع مقالا بعنوان" كسوف العقل: الإعلام في العالم الإسلامي" ناقش فيها العلاقة التي تربط القمع الناجح للسرديات النقدية باستمرارية الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط. ليبدأ بعدها بدراسة وجود صلة بين السرديات المنتشرة عن الخوف وانعدام الثقة والمناخ السياسي العام في المنطقة، التي ساهمت "في ترسيخ الاستبداد وعززت العنف السياسي". وهو يقول أن المساهمات التي جُمعت في هذا الكتاب طورت هذه الرؤية بشكل أكبر، بطريقة تساعدنا على فهم "كيفية ارتباط العنف الجماعي بأمراض سياسية أخرى، بما في ذلك الأنظمة السياسية المختلة".

سرديات قاتلة

يناقش الأفندي، ابتداء، التأثير الذي يتركه الشعور بانعدام الأمان على مختلف أشكال  السرد، مثل الأفلام الوثائقية، والقصص الشعبية، والخطاب السياسي، لتقييم دورها في التسامح مع الفظائع. ويطرح فكرة "الأمننة المفرطة" والتحولات التي تعبر من خلالها من الأمننة الدنيا في الأنظمة السياسية الديمقراطية الليبرالية، إلى الأمننة العالية في الأنظمة السلطوية، ثم الأمننة القصوى في الأنظمة الشمولية، وصولا إلى "المفرطة" في الأنظمة التي تمارس الإبادة الجماعية.

ويرى الأفندي أن سرديات الأمننة يمكن أن تكون ضرورية لصحة المجتمعات وسلامتها، إلى حد ما. وأنها في المجتمعات الديمقراطية تخضع باستمرار للنقد والمراجعة، و"هذا هو السبب في أن سرديات الإسلاموفوبيا لم تثر الأمننة المفرطة المزعزعة للاستقرار. فقد ظلت تحت السيطرة إلى حد معقول". وهي وإن اقتربت من التطرف فإنها تنتهي غالبا ببث رسائل مطمئنة حول قدرة الوسائل الديمقراطية على احتوائها وكبح جموحها.

من جهته يتناول كينيث إينياني سيمالا، أستاذ علم اللغات الثقافي في كينيا، الأحداث العنيفة التي وقعت عقب الانتخابات الرئاسية في العام 2007، مشيرا إلى أنها تعبير عن "التنافس بين النخب عبر "سرديات قاتلة" تستخدم الهويات العرقية كورقة للتحشيد السياسي". ويلفت إلى أن بعض هذه السرديات يعود تاريخه إلى ما قبل فترة الاستعمار، حيث تم استدعاء روايات عن صراعات ومظالم قديمة، استخدمتها النخب السياسية بانتهازية. ويقدّم جيمس تار تسايور، أستاذ الإعلام في لاغوس، مثالا آخر على تأثير السرديات المتنافسة في زيادة حدة الصراع الإثني في نيجيريا، والتي تأتي كذلك من ماض استعماري انتهى. وكيف ظلت سرديات التوجس هذه وقودا للعداوات، وانعدام الثقة، والعنف المتبادل.

وعن الهند يشرح ديبيش أناند، أستاذ السياسة والعلاقات الدولية في جامعة ويستمنستر، كيف "طورت الحركة القومية الهندوسية المتطرفة "هندوتفا" سرديات هوية إقصائية، صورت فيها المسلم كمصدر لتهديدات مركبة.. ودأبت على ترديد أساطير عن المسلم الغازي الشهواني في مقابل المرأة- الأم الهندوسية البريئة، والرجل الهندوسي المتسامح". وهو ما قاد إلى تجريد المسلم من إنسانيته، وجعل العنف الموجه ضده أمرا عاديا. وبحسب ما يقول أناند فإن المتطرفين الهندوس يستعيرون بشكل واضح الكثير من كتابات المستشرقين والإمبرياليين لدعم سردياتهم عن المسلمين، ونتيجة لذلك فإن "الصورة الأكثر شيوعا للمسلم عند أنصار حركة هندوتفا هي صورة الإرهابي".

إن ما يحدث في غزة اليوم أكسب "سرديات الفزع" هذه بعدا جديدا، إذ صورت إسرائيل هجوم السابع من أكتوبر باعتباره أكبر تهديد لوجودها، وسوّغت بذلك الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة. ووجدت لهذه السردية "الخرافية" حلفاء ومتضامنين من معظم الدول الغربية، إذ كيف لجماعة مسلحة هامشية ومحاصرة أن تهدد وجود دولة تمتلك واحدا من أقوى الجيوش في العالم! لكننا، كما يقول، مجبرون على العيش في عالم خيالي، أصبح فيه محترف الاضطهاد ونهب الأراضي هو الضحية، أما المقهور المعذب فهو التهديد.
حول ظاهرة الإسلاموفوبيا يكتب الصحافي الاستقصائي والخبير في الشؤون الدولية نفيز مصدق أحمد عن أن انتشار هذه الظاهرة لم يكن، فقط، بسبب شيطنة مستفحلة للمسلمين في وسائل الإعلام في حقبة ما بعد 11سبتمبر، بل هي كما يراها "جزء من ترسبات الحقبة الإمبريالية، ومرتبطة بتفاقم المخاوف وعدم اليقين عالميا". ويقول إن "أفضل ما تفهم به الإسلاموفوبيا هو أنها سردية أمنية تستنفر التحيزات المتعصبة للتعامل مع الأزمات المتفاقمة الخارجة عن السيطرة، وعدم اليقين المتزايد في عصر تراجع الهيمنة الغربية".

ويجد أن إضفاء الطابع المؤسسي على الارتياب المرضي من المسلمين يعقد المشكلة ويمنح وسائل الإعلام مزيدا من السرديات المعادية للمسلمين لتغذية التطرف، مبديا تخوفه من أن تقود مثل هذه المتتاليات إلى فعل إبادة. أما أنس الشيخ علي، رئيس جمعية علماء العلوم الاجتماعية المسلمين في بريطانيا، فيتتبع سرديات الإسلاموفوبيا في الثقافة الشعبية الغربية في العقدين الأخيرين، ويلفت إلى الاستمرارية "الغريبة في رواية القصص المتحيزة ضد المسلمين على مدى أكثر من ثلاثة قرون...رغم وجود سرديات بديلة تعود للقرن الثامن عشر تضم شهادات لشهود عيان تشكك في الحكايات المختلقة لرحالة مزعومين. تماما مثل التقارير الصحفية والأفلام والكتب التي تتصدى اليوم – من الهامش- للسرديات المتحيزة السائدة".

الهويات الإقصائية

تحضر يوغوسلافيا كمثال شديد الوضوح على مفاعيل سرديات التوجس، وآثارها الكارثية، وحول ذلك يعرض سلوبودان ج. ماركوفيتش، الأستاذ في جامعة بلغراد، لنشوء تلك السرديات المتنافسة، حيث سلط الضوء على دور بعض المثقفين، خاصة الشيوعيين سابقا، في تقديم روايات صربية وكرواتية متضاربة عن الإبادة الجماعية التي يتهم بها كل طرف الآخر. وهي روايات "أيقظت هويات وطنية متنازعة في المراحل الأخيرة من الدولة اليوغسلافية، عكست خيبة أمل من السردية الشيوعية ذات التوجه العالمي، وكذلك من الهوية اليوغسلافية الجامعة." ويقول ماركوفيتش إن هؤلاء المثقفين والكتاب لم يكن مقصدهم من تطوير تلك السرديات الدعوة إلى الصراع، بل مجرد إحياء ذكرى معاناة شعوبهم واسترداد الهوية المفتقدة، غير أن السرديات التي تشير إلى المنافس السياسي باعتباره جانيا لا يمكن أن تؤدي إلا إلى إحياء مشاعر الانتقام .

في الفصل الخاص بحالة إسرائيل وفلسطين يركز إيلان بابيه، أستاذ التاريخ، على مسألة بناء الهوية الوطنية الإسرائيلية-اليهودية، وكيف استلزم ذلك تصوير الذات الفلسطينية/العربية على أنها الآخر المشيطَن، والنقيض للهوية الإسرائيلية. وهو أمر يعتقد بابيه أن تجذره في الثقافة الشعبية الإسرائيلية/اليهودية يشكل العائق الرئيسي أمام حل عادل ومنصف للصراع. يقول بابيه إن الاعتراف بالفلسطينيين كضحايا لما تقوم به إسرائيل بالنسبة للإسرائيليين أمر صادم جدا لهم. فهذا يتطلب الاعتراف بالظلم الذي انطوى على قتل وتشريد السكان الأصليين من أرضهم، وهو أمر يشكك في الأساطير التأسيسية لدولة إسرائيل، التي تروج لان فلسطين أرض بلا شعب، بل  ويثير أيضا أسئلة أخلاقية كثيرة ستؤثر على مستقبل الدولة. كما أن هذا الاعتراف سيفقدهم وضع "الضحية المطلقة في التاريخ الحديث"، وسيجعلهم في مواجهة حقيقة أنهم أصبحوا (الإسرائيليون) نسخة طبق الأصل من أسوأ كوابيسهم. ومن جهة أخرى يرى بابيه أن الإسرائيليين والفلسطينيين يحرصون "على حراسة سرديات معاناتهم بشراسة من دون الاعتراف بمعاناة الطرف الآخر، خشية أن يكون ذلك على حساب تسليط الضوء على معاناتهم هم. ويطيل ذلك التبارز بالسرديات أمد الصراع ويمنع حدوث أي تصالح".

إضافة إلى التمهيد والمقدمة التي وضعهما محرر الكتاب الأفندي، ثمة مقدمة مطولة كذلك لفرانسيس م. دينق الدبلوماسي الأممي السوداني، الذي شغل منصب المستشار الخاص للأمين العام المعني بمنع الإبادة الجماعية، وعمل كذلك ممثلا للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون النازحين.

يرى دينق في مقدمته أن الدراسات في الكتاب تميل في مجملها إلى إعطاء أهمية كبرى إلى إجراءات الوقاية، وهو لا يشكك في أهمية ذلك، غير أنه يلفت إلى أن "بذور الفظائع تُبذر على مستوى بناء الهويات"، بمعنى أن بناء الهويات الإقصائية كفيل منذ البداية، وقبل تشكل سرديات التوجس، بتهيئة الظروف لنشوب الصراعات. لذا يجد أنه من الضروري العمل مبكرا على مستوى التعليم لمنع الانزلاق إلى هذا المنحدر. كما يرى أن الإجراءات القانونية والعقابية قد تشكل رادعا، سيما لدى النخب المتحفزة للمشاركة في التحريض.
التعليقات (0)

خبر عاجل