نرى من خلال الشاشات، يوميا، آلاف الأجساد المتناقضة في عيشها الحياتي..
أجساد ترقص، تلعب، تحتفل وتصنع يوميّاتها، ووجبَاتها، في أفضل تمظهراتها المعيشية..
أجساد مُلمّعة، مثالية بالتقييم النيوليبرالي الصارم، وفي ذات الوقت، وخلال أقل من
دقيقة، أي بين الصورة وأخرى، ومقطع فيديو وآخر، تجد أجسادا أُخرى مُتعبة، عليها أقمشة
رثة، مُقطّعة، على يديها وقدميها، تمشي معفّرة الوجه، تبكي، وتسأل عن خيمة، بلا مطبخ
كبير أو دورة مياه أو قطعة خبز. هكذا الأجساد تتناقض، في زمننا، زمن الإبادة والنيوليبرالية.
هنا، عن نفسي وفي هذا المقال، لا تخصني أجساد النيوليبرالية، ما يهمّني أني أردت أن
أفهم وأطرح تمثلات الآلة
الإسرائيلية حيال أجساد أهلنا في
غزة.
في خضمّ حربها الإبادية، لم تعد إسرائيل مجرد دولة استعمارية إحلاليّة
فحسب، بل أضحى كيانها متوحشا، ومتفننا في استباحة الأجساد، ينهشها بشكل ممنهج.. أجسادٌ
أزاحها المحتل من مدار الإنسانية منذ وجوده، وبعد السابع من أكتوبر، نظر إليها باعتبارها
مجرد "حيوانات بشرية"، كما صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي، أو زوائد على الحضارة
يجب التخلّص منها. هي في أعينهم كائنات تُحاصَر بقوة في فضاء مغلق، لتُمارَس عليها
أشكال متداخلة من التوحش الساديّ الإسرائيلي.
في خضمّ حربها الإبادية، لم تعد إسرائيل مجرد دولة استعمارية إحلاليّة فحسب، بل أضحى كيانها متوحشا، ومتفننا في استباحة الأجساد، ينهشها بشكل ممنهج
من بعد عميلة السابع من أكتوبر، اقتحم الجيش الإسرائيلي سجنه الكبير
الذي صاغه لأهل غزة، في محاولة للسيطرة المباشرة على زنازينه، وسجنائها؛ سُكانها. تحوّلت
غزة من سجنٍ واسع مفتوح الجدران إلى زنازين ضيقة، من نار ورماد ودم وأشلاء ومرض وجوع،
أقمشة خيام، وعدم. وبدأ الجيش في إعادة تشكيل هذه الأجساد الغزّية الأسيرة، التي نُزعت
منها أدوات المقاومة، أي المدنيين، عبر تمثلات متباينة ومتداخلة من المحو، والقتل،
والتقطيع، والسجن، والإخفاء، بل حتى واستخدامها كدروع بشرية.
تعددت تمثلات القتل الإسرائيلي على الجسد، فبعض الأجساد قُتلت بإصابة
مباشرة، وظلت ملامحها مرئية للعيون، وفي حالات أخرى، شوّه الجسد، فبدا كلوحة حزينة
من عصور المأساة الإنسانية المستمرة. أما في أعنف اللحظات، وأقصاها، فتحوّل الجسد إلى
أشلاء متناثرة، يجمعها الأحباء وغيرهم بصعوبة، (تخيل أن تجمع لحم أخيك، وتقبّل يد أمك،
وأنت تنظر إلى وجهها، فلا تجده)، أو ربما لا يجدون منها شيئا، فكأن الضربة محت وجودها،
أو نثرت عظامها ولحمها في متاهات الوجود، فَصعُب الوصول إليها. هنا يتجلى التوحش في
أبشع صوره، حيث يتبخر الجسد تماما، ويذوب في الهواء وكأنه لم يكن. إن وجود الجسد وجوديّ،
حتى بعد موته.
بجانب فظاعة الإبادة، اعتقل الجيش الإسرائيلي آلاف
الفلسطينيين دون
أي تهمة، وبمجرد أن سيطر على أجسادهم، بدأت رحلة تعذيبهم؛ الضرب، والتعرية الجسدية
والنفسية، أصبحت ممارسات "مألوفة". يجمعونهم في فضاءات ضيقة، وواسعة، يجرّدونهم
من ثيابهم، ويعصبون أعينهم، ويجبرونهم على إيماءات جسدية ولسانية مهينة، ليعترفوا بذاتهم
غير الإنسانية مقارنة بالآخر، إسرائيل، ويتبرأوا من حق تحرّرهم، ويسبّون حماس وقيادتها.
أيضا، استُخدم العنف الجنسي، الجسدي واللفظي، تجاه الرجال والنساء المعتقلين،
كأداة للإخضاع النفسي. ففي كل تاريخ الحروب، وحرب غزة، كان الاعتداء الجنسي وسيلة للطرف
المعتدي ليُعلن، عبر عضوه الجنسي، انتصارا نفسيا وسياسيا، حقيقيا ومزعوما.
ثم تأتي مَراحل أخرى من تمثلات الإبادة، فبعض الأجساد التي حُدّد مكانها
تُنقل إلى أماكن تحقيق وسجون، بينما يُخفى بعضها الآخر في سجون سرّية، ضمن مصير مجهول
إلى الآن، يحتار أهل غزة حيالهم، هم مختفون أم تحت الأنقاض أو في السماء؟! وفي هذه
المرحلة، تُقتل الأجساد ببطء تحت وطأة التعذيب أو سوء الحالة الصحية. وقد وصل الحال
بالجيش الإسرائيلي إلى دفن من تبقى منهم في مقابر جماعية مجهولة، للتخلص من الأجساد
الفائضة التي لا يريدون اعتقالها أو إخفاءها. هنا تختفي الأجساد، اختفاء جماعيا، نعم؛
قتل ودفن جماعي.
في وجه كلّ هذا التوحش، تجد مقاومة من أجساد أخرى، تحمل السلاح، أجساد إنسانية تماما، تتعب وتُنهك، لكنها تحاول ألّا تخضع بسهولة، لأنها أُسست كي تقاوم القتل والسجن والتعرية، تقاوم الاستعمار
إسرائيل تمارس أقصى حالات الاستثناء حيال أجسادٍ بعينها، إذ ترى حقّها
في الامتلاك الأبديّ لها، فتَسرقها، كما حدث مع جسد يحيى السنوار، زعيم حماس. بعد مقتله،
أُخذ جسده إلى تل أبيب، مركز
الاحتلال الحضاري، وشُرِّح، ثم أُخفيَ تماما، وربما للأبد.
هذا تكرار تاريخي مع كثير من أجساد الفلسطينيين المسروقة، في محاولة لمحو وجودهم من
الذاكرة والتاريخ، فلا مكان لزيارتهم بعد الموت.
وفي ساحة الإبادة، والقتال، يُستخدم الفلسطينيون كدروع بشرية متقدمة،
يُقادون أمام جنود الاحتلال نحو أماكن القتال، فوق الأرض وتحتها، في أنفاق المقاومة،
ليروا إن كانت الأرض مفخّخة. هنا، يتقدّمون نحو الموت ليُقتلوا، وينسحب جنود الاحتلال
سالمين.
أما الأجساد التي لم يطلها القتل أو السجن أو الإخفاء، وفلتَتْ من أن
تكون درعا بشريا، فقد بقيت تركض من مكان إلى آخر، لكنها لم تنجُ تماما، فالحصار الإسرائيلي
حوّلها إلى أجساد تائهة، مشرّدة، تجوع وتمرض، وتعيش ككائنات هشة، ومتعبة، تنتظر الطعام
والعلاج أو الموت، أيّهم يأتي أسرع، أو كلّهم يأتون معا. لقد تحولت الأجساد إلى آلات
صناعية مهملة، خُردوات صدأت وماتت بسبب نقص وقودها، الطعام، في عصر الوجبات السريعة،
لكنها في بلادنا، السودان وغزة، ومن قبلهما العراق، لا تصل أبدا، والسبب دائما: أمريكا.
لكن، في وجه كلّ هذا التوحش، تجد مقاومة من أجساد أخرى، تحمل السلاح،
أجساد إنسانية تماما، تتعب وتُنهك، لكنها تحاول ألّا تخضع بسهولة، لأنها أُسست كي تقاوم
القتل والسجن والتعرية، تقاوم الاستعمار، وتصنع من السجن أنفاقا، كزنازين تحت الأرض
يختبئ فيها السجناء من سجَّانهم، يباغتونه ويقاتلونه، فيَقتلون ويُقتلون أو يُعتقلون،
وتُمارَس على أجسادهم كل أشكال العنف الإبادي.