عنوان الكتاب: استبداد الدولة ودولة
الاستبداد
المؤلف: فخري كريم
اللغة الأصلية: العربية
الدار الناشرة: (دار المدى للطباعة والنشر
والتوزيع
تاريخ النشر: 2024
عدد الصفحات: 573
يعود النقاش حول الاستبداد في الفكر العربي
الحديث والمعاصر دائماً بقوة كلما اهتزّت بنية الدولة أو تصدعت شرعيتها أمام
شعوبها. فمنذ عبد الرحمن الكواكبي وكتابه الشهير طبائع الاستبداد، مروراً بكتابات
علي عبد الرازق، وانتهاءً بمشاريع أكثر تركيباً لدى مفكرين مثل عبد الله العروي
ومحمد عابد الجابري، ظل الاستبداد سؤالاً مركزياً لا بوصفه عرضاً طارئاً، بل
باعتباره بنية متجددة تعيد إنتاج نفسها عبر أشكال مختلفة. في هذا السياق يأتي كتاب
فخري كريم استبداد الدولة ودولة الاستبداد، الذي يقدّم محاولة لإعادة صياغة النقاش
حول الاستبداد العربي ضمن أفق مزدوج: من جهة نقد بنية الدولة العربية الحديثة وكيف
تحوّلت إلى أداة قمع وتغوّل، ومن جهة ثانية مساءلة الإرث التاريخي والاجتماعي الذي
مهّد لبروز دولة استبدادية تُسخّر المجتمع وتعيد صياغته وفق منطق السيطرة المطلقة.
الكتاب، بما يحمله من كثافة تحليلية وتوتر
سياسي، لا يندرج ضمن جنس الدراسات الأكاديمية الصرفة، بل هو أقرب إلى نص جدلي ـ فكري
يستند إلى معايشة المؤلف لواقع عربي مأزوم، لا سيما التجربة
العراقية التي شكّلت
خلفية حاسمة لفهمه لمعنى استبداد الدولة. لكنه مع ذلك يتجاوز حدود الحالة العراقية
لينفتح على فضاء عربي عام تتكرر فيه سمات بنيوية متشابهة: من مصر الناصرية إلى
سوريا البعثية، ومن جمهوريات "الثورات" التي تحولت إلى ملكيات مقنّعة،
وصولاً إلى التجربة التونسية التي حملت وعود الحرية ثم عادت إلى الانغلاق السلطوي
مع انقلاب قيس سعيّد.
ما يميز مقاربة فخري كريم هو هذا التركيب
اللغوي الذي يضعنا منذ البداية أمام مفارقة معقدة: "استبداد الدولة"
مقابل "دولة الاستبداد". العبارتان قد تبدوان متقاربتين، لكن التمييز
بينهما يفتح أفقاً لفهم دقيق. الأولى تشير إلى حالة تغوّل الدولة القائمة بذاتها
عندما تتجاوز أدوارها الطبيعية في الحماية والتنظيم لتصبح أداة قمع وهيمنة، بينما
الثانية تحيل إلى بنية تأسيسية: دولة وُلدت من رحم الاستبداد ولم تعرف أصلاً معنى
التعددية أو الشرعية التعاقدية. هنا نلمس صدى أفكار ماكس فيبر عن الدولة الحديثة بوصفها
احتكاراً للعنف الشرعي، غير أنّ فخري كريم يضيف بأن العنف في السياق العربي غالباً
ما يتجاوز حدود الشرعية ليصبح هو جوهر الدولة، أي أنّ الدولة ليست فقط محتكرة
للعنف، بل هي معرّفة به ومؤسسة عليه.
إذا كان فخري كريم قد وفّر لنا أدوات تشخيص دقيقة لبنية الاستبداد في العالم العربي، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بعد ذلك هو: كيف يمكن للمجتمعات مواجهة هذه البنية؟ هل المقاومة ممكنة في ظل دولة استبداد، أم أن كل محاولة للتحرر ستظل محكومة بالفشل؟ هذه الأسئلة ليست مجرد فرضيات نظرية، بل هي واقع يومي يعيشه المواطن العربي، كما نراه بوضوح في تونس ومصر وسوريا.
من هذا المنطلق، لا يمكن قراءة الكتاب خارج
ثنائية "الحداثة المعطوبة" التي وسمت مشروع الدولة الوطنية في العالم
العربي. فعوض أن تكون الدولة تجسيداً للإرادة العامة كما صاغها جان جاك روسو، أو
حارساً على التوازنات المجتمعية كما في التقاليد الليبرالية، أصبحت جسداً غريباً
فوق المجتمع، بل وأحياناً ضده. وفي هذا تكمن أهمية الكتاب: إنه لا يكتفي بوصف
مظاهر الاستبداد بل يسعى إلى تأصيلها ضمن تاريخ طويل من الانفصال بين الدولة
والمجتمع.
لكن، ما يجعل المراجعة النقدية ضرورية هو
أنّ نص فخري كريم رغم كثافته يظل في كثير من الأحيان أقرب إلى التشخيص السياسي
المباشر منه إلى التفكيك المفاهيمي العميق. وهنا تتدخل المراجعة التحليلية ليس فقط
لتوضيح ما طرحه المؤلف، وإنما أيضاً لمساءلة صمته عن قضايا أخرى، ولإسقاط أطروحاته
على تجارب عينية مثل الحالة التونسية الراهنة. فالمعركة اليوم ليست فقط بين
استبداد الدولة ودولة الاستبداد، بل بين إمكانيات التحرر ومخاطر الارتداد إلى
الاستبداد بعد كل محاولة للانعتاق.
أطروحة فخري كريم ومفاتيح قراءتها
يقدّم فخري كريم أطروحته انطلاقاً من سؤال
مزدوج: كيف تحولت الدولة العربية الحديثة إلى أداة استبداد، وكيف أصبح الاستبداد
ذاته مكوّناً تأسيسياً في بنيتها لا عرضاً عابراً يمكن تجاوزه بسهولة؟ بهذا
المعنى، الكتاب ليس دفاعاً عن دولة مثالية ضاعت، ولا هو حنين إلى نموذج غربي لم
نستطع إدخاله كما هو، بل هو تفكيك لمحاولة التحديث العربية التي انطلقت بعد
الاستقلالات السياسية وانتهت إلى بناء كيانات سلطوية قمعية.
حين يتحدث كريم عن استبداد الدولة، فإنه
يشير إلى تلك اللحظة التي تصبح فيها مؤسسات الدولة وأجهزتها أدوات لفرض إرادة
السلطة لا لخدمة المجتمع. الاستبداد هنا نتيجة لانحراف في وظائف الدولة: القضاء
يتحول إلى ذراع للسلطة التنفيذية، الإعلام يُختزل في بوق دعائي، التعليم يُفرغ من
بعده النقدي ليصبح مجرد وسيلة لإعادة إنتاج الطاعة. هي لحظة يعرفها المواطن العربي
جيداً، حيث تغدو الدولة حضوراً ثقيلاً في حياته اليومية: من رخصة القيادة إلى أبسط
تفاصيل المعاملات الإدارية، كل شيء يمر عبر جهاز بيروقراطي مسيّس يذكّر المواطن أنه
مراقَب وأن حريته مرهونة برضا السلطة.
أما دولة الاستبداد فهي بنية أعمق: دولة لم
تنشأ أصلاً على عقد اجتماعي أو على فكرة المصلحة العامة، بل تأسست على منطق
السيطرة منذ لحظة تشكّلها. هنا تبدو المقارنة مع ماكس فيبر أساسية: الدولة
الحديثة، وفق تعريفه، تحتكر العنف المشروع باسم المجتمع. لكن في التجربة العربية
كما يصوغها كريم، الدولة لا تحتكر العنف باسم المجتمع، بل ضد المجتمع. وهذا ما
يجعلها مختلفة جوهرياً عن نظيراتها في أوروبا. فهي لم تخرج من رحم الثورة
البرجوازية أو العقد الاجتماعي، بل من رحم الاستعمار العسكري والانقلابات العسكرية
والشرعيات الثورية التي تحوّلت سريعاً إلى أنظمة قمعية.
لعل أبرز ما يلفت الانتباه في كتاب كريم هو
محاولته وصل هذا التشخيص بسياق تاريخي أطول. فهو لا يرى الاستبداد العربي مجرد
منتوج للاستعمار أو للأنظمة القومية العسكرية، بل امتداداً لبنية سياسية–ثقافية
ضاربة في عمق التاريخ. هنا يلتقي مع أطروحات عبد الله العروي حين تحدّث عن
"الدولة السلطانية"، ومع محمد عابد الجابري في قراءته للعقل السياسي
العربي. لكن في الوقت نفسه، يضيف كريم بعداً راهناً: الدولة العربية الحديثة فشلت
في التوفيق بين مطلب التنمية ومطلب الحرية، فكانت النتيجة أن التضحية بالحرية لم
تؤدّ إلى التنمية، بل إلى إعادة إنتاج التخلف والتبعية.
اللافت أيضاً أن المؤلف يتعامل مع الاستبداد
لا كمجرّد خيار سياسي لحاكم بعينه، بل كبنية معقدة تتشابك فيها العوامل الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية. فالدولة الريعية على سبيل المثال ـ كما حللها حازم
الببلاوي ـ تغذي الاستبداد لأنها تسمح للسلطة بتمويل ولاءات دون الحاجة إلى مشاركة
سياسية حقيقية. كذلك الثقافة السياسية التقليدية التي تقدّس الزعيم وتختزل الأمة
في شخصه تسهم في إعادة إنتاج هذه البنية. من هنا نفهم لماذا يرى كريم أن مواجهة
الاستبداد تتطلب أكثر من مجرد إسقاط الحاكم، بل تحتاج إلى تفكيك شبكة كاملة من الولاءات
والهياكل التي تدعم دولة الاستبداد.
لكن رغم هذه الإضافات المهمة، يظل النص
مفتوحاً على تساؤلات. فخري كريم يقدّم توصيفاً غنياً للاستبداد لكنه لا يذهب
بعيداً في بناء بدائل. صحيح أنه يؤكد على أهمية الدولة المدنية الديمقراطية، لكنه
لا يقدّم تصوراً واضحاً لكيفية الانتقال إليها. هنا يمكن أن نستعيد النقاش مع حنّة
أرندت التي شددت على أن الثورات لا تُقاس بقدرتها على إسقاط الاستبداد فحسب، بل
بقدرتها على تأسيس فضاء سياسي جديد يسمح بالمشاركة والتعددية. السؤال إذن: كيف
نؤسّس هذا الفضاء في ظل تاريخ طويل من الاستبداد؟
الجواب عند كريم يظل في حدود التذكير بضرورة
الديمقراطية، لكنه لا يلامس تفاصيلها المؤسسية أو الثقافية. ربما لأن نصه أقرب إلى
صرخة سياسية منه إلى مشروع فلسفي–سياسي متكامل. ومع ذلك، فإن قيمته تكمن في كونه
يذكّرنا دائماً أن الاستبداد ليس فقط نتيجة أفراد طغاة، بل نتيجة دولة بكاملها
أعادت تعريف ذاتها كأداة قمع لا كإطار تعاقدي. وهذا التمييز الجوهري هو الذي يجعل
الكتاب نصاً يستحق المراجعة النقدية والتوسيع بالمقارنة والإسقاط.
بين النظرية والواقع.. مقارنات وتفكيكات
عندما نحاول اختبار أطروحة فخري كريم على
أرض الواقع العربي، سرعان ما ندرك أن التمييز بين "استبداد الدولة"
و"دولة الاستبداد" ليس مجرد لعبة لغوية، بل هو مفتاح لفهم مسارات
متباينة ومعقدة. فهناك دول عربية نشأت ككيانات استبدادية من لحظة التأسيس ذاته،
مثل سوريا البعثية أو ليبيا القذافية، حيث لم يكن هناك أي مجال لعقد اجتماعي أو
لتعددية سياسية حقيقية. هذه هي "دولة الاستبداد" في أوضح صورها: دولة لا
ترى نفسها مضطرة إلى التبرير، لأن شرعيتها تستند إلى خطاب ثوري أو قومي أو ديني
مغلق.
في المقابل، هناك دول أخرى عرفت محاولات
تحديث أو ليبرالية جزئية ثم انقلبت إلى استبداد مع مرور الزمن. مصر تقدم المثال
الأبرز: دولة تأسست في القرن التاسع عشر على مشروع تحديث محمد علي، ثم عرفت دستور
1923 وتجربة ليبرالية برلمانية، لكنها انتهت مع ثورة يوليو إلى حكم عسكري شمولي.
هنا نجد أنفسنا أمام حالة "استبداد الدولة"؛ أي دولة تملك مؤسسات
ومجتمعاً مدنياً ناشئاً، لكنها تنحرف بوظائفها لتتحول إلى أداة قمعية. وهذا ما
يجعل التجربة المصرية غنية للمقارنة: فالمؤسسات التي كان يمكن أن تكون رافعة
للديمقراطية، مثل القضاء والإعلام والجامعة، تحولت تدريجياً إلى أدوات في يد
السلطة.
أما في الحالة التونسية، فالوضع يبدو أكثر
تعقيداً. تونس بعد 2011 كانت النموذج الأكثر إشراقاً في الربيع العربي: دستور
ديمقراطي، تداول سلمي على السلطة، فضاء عام مفتوح. لكن هذه التجربة سرعان ما واجهت
حدودها. هنا بالذات يمكن أن نقرأ أطروحة كريم من زاوية جديدة: هل نحن أمام دولة
استبداد أم أمام استبداد دولة؟ يبدو أن تونس لم تكن دولة استبداد بالمعنى العميق،
لأنها عرفت لحظة تأسيسية تعاقدية نسبياً بعد الثورة. لكن سرعان ما عاد استبداد
الدولة ليطل برأسه، عبر احتكار السلطة التنفيذية لصلاحيات مطلقة، وتهميش البرلمان،
وتوظيف القضاء والإعلام كأذرع للسلطة. الخطاب الشعبوي لقيس سعيّد مثّل اللحظة
المفصلية التي تحول فيها الحلم الديمقراطي إلى كابوس سلطوي، معتمداً على شرعية
انتخابية واسعة لكنه موجهاً ضد فكرة المؤسسات والتوازنات.
المثير هنا أن فخري كريم لا يناقش التجربة
التونسية بشكل مباشر، لكن كتابه يمدّنا بالأدوات اللازمة لفهمها. ما حصل في تونس
يكشف هشاشة التحول الديمقراطي حين لا يرافقه بناء ثقافة سياسية راسخة. فالمجتمع
الذي أسقط بن علي لم يكن محصناً ضد عودة الاستبداد في شكل جديد، لأن البنية
العميقة لدولة ما بعد الاستقلال بقيت قائمة: بيروقراطية مركزية، أمن قوي، واقتصاد
ريعي يقوم على الولاءات. بهذا المعنى، قيس سعيّد لم يخترع الاستبداد بل ورثه وأعاد
صياغته بخطاب قانوني–شعبوي. وهنا تبرز دقة مقولة كريم: الاستبداد ليس مجرد شخص، بل
هو شبكة مؤسسات وخطابات وثقافات تجعل من عودة السلطوية أمراً ممكناً في أي لحظة.
وإذا وسّعنا دائرة المقارنة أكثر، سنجد أن
ما جرى في تونس يتقاطع مع أنماط مشابهة في مصر بعد 2013 أو في تركيا بعد محاولة
الانقلاب 2016. في هذه الحالات جميعها، الدولة لم تكن فارغة من مؤسسات، بل كانت
تملك برلمانات وأحزاباً وصحفاً، لكنها تحولت إلى أدوات في يد السلطة التنفيذية.
إنها حالات نموذجية لاستبداد الدولة الذي يبتلع ما هو قائم من حياة سياسية ليعيد
توظيفها ضد نفسها.
من زاوية أخرى، تكشف التجربة السورية أو
العراقية البعثية نموذج "دولة الاستبداد": دولة تأسست أصلاً على فكرة
الحزب الواحد والزعيم الأوحد، بحيث يغدو من العبث الحديث عن انحراف مؤسساتها. هذه
الدولة، كما يصفها كريم، هي دولة مغلقة لا يمكن إصلاحها من الداخل إلا بانهيارها
أو ثورة جذرية عليها. ولهذا فإن مآلاتها غالباً كارثية: حرب أهلية أو انهيار شامل
كما رأينا في العراق وسوريا وليبيا.
ما نستنتجه من هذه المقارنات هو أن أطروحة
كريم تسمح لنا برسم خريطة لأنماط الاستبداد العربي: هناك دول استبداد خالصة، وهناك
استبداد الدولة في دول كان يمكن أن تكون ديمقراطية. غير أن الفارق العملي بينهما
يظل دقيقاً: ففي الحالتين، يجد المواطن نفسه أمام دولة تعيد صياغة حياته على
مقاسها، وتحوّل المؤسسات التي يُفترض أن تحميه إلى أدوات تراقبه وتقمعه.
من هنا يصبح السؤال المركزي ليس فقط كيف
نسمي هذا الاستبداد، بل كيف نقاومه. هل يكفي أن نراهن على ثورة جديدة كما يلمّح
بعض الحالمين؟ أم أننا بحاجة إلى إستراتيجية أطول مدى لبناء ثقافة سياسية ومؤسسات
محصّنة ضد الانحراف؟ وهنا بالذات يبدو كتاب كريم خطوة في تشخيص الداء، لكنه لا
يقدّم العلاج، تاركاً الباب مفتوحاً أمام القراء والمثقفين والقوى السياسية
للتفكير في البدائل.
الاستبداد والمقاومة.. دروس وأسئلة مفتوحة
إذا كان فخري كريم قد وفّر لنا أدوات تشخيص
دقيقة لبنية الاستبداد في العالم العربي، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بعد ذلك هو:
كيف يمكن للمجتمعات مواجهة هذه البنية؟ هل المقاومة ممكنة في ظل دولة استبداد، أم
أن كل محاولة للتحرر ستظل محكومة بالفشل؟ هذه الأسئلة ليست مجرد فرضيات نظرية، بل
هي واقع يومي يعيشه المواطن العربي، كما نراه بوضوح في تونس ومصر وسوريا.
من منظور تاريخي، يمكن أن نستحضر عبد الرحمن
الكواكبي، الذي رأى منذ أكثر من قرن أن الاستبداد لا ينهار بالقوة العسكرية وحدها،
بل عبر وعي المجتمع وإصراره على رفض الخضوع. في طبائع الاستبداد، يؤكد الكواكبي أن
الدولة المستبدة تتغذى على الرضا أو الخضوع الشعبي، وأن مقاومة المجتمع هي الوسيلة
الوحيدة لتفكيك هذه البنية. هذا المنظور يتلاقى مع أطروحة كريم، التي ترى أن
الاستبداد ليس فقط إرادة السلطة، بل شبكة علاقات وأجهزة وممارسات مجتمعية تعيد
إنتاجه.
حنّة أرندت تضيف بعدًا فلسفيًا آخر:
فالتوتاليتارية، أو الاستبداد الشامل، لا يمكن مواجهته إلا عبر إعادة بناء الفضاء
العام الذي يسمح بالمشاركة السياسية، وبالوعي الجماعي الذي يمنح الفرد القدرة على
مقاومة الاستلاب. هذه القراءة تعطي بعدًا ثقافيًا للمقاومة: إنها ليست فقط مواجهة
أجهزة الدولة، بل مواجهة الذهنيات والأعراف الاجتماعية التي تقبل بالاستبداد.
إن استلهام أطروحة كريم مع الاستعانة بمنظرين ومقاومين للاستبداد يعطي الباحثين والمثقفين أدوات لفهم التحديات، ويذكّرهم أن معركة الدولة والمجتمع ليست معركة فردية أو لحظية، بل هي صراع طويل الأمد يتطلب وعيًا، صبرًا، واستراتيجية متعددة الأبعاد لمواجهة البنى العميقة للاستبداد.
وفي السياق العربي الحديث، نجد محمد عابد
الجابري الذي يحلل العقل السياسي العربي ويشير إلى ثلاثية "الغنيمة ـ العصبية ـ العقيدة" التي ساهمت في ترسيخ أنماط الطاعة والخضوع. الجابري يرى أن مقاومة
الاستبداد تحتاج إلى نقد هذه العقلية التاريخية، أي مواجهة الإرث الثقافي إلى جانب
مواجهة الدولة نفسها. فخري كريم في كتابه لا يغفل هذه الأبعاد كليًا، لكنه يركز
أكثر على التشخيص المؤسسي، تاركًا للباحثين والمجتمعات فرصة استكمال البناء النظري
والعملي للمقاومة.
الحالة التونسية تقدم مثالاً حيًا على هذه
التعقيدات. الثورة التونسية عام 2011 كانت نموذجًا لمجتمع قادر على إسقاط دولة
مستبدة، لكنه لم يكن محميًا بالكامل ضد عودة أشكال الاستبداد الجديدة بعد عشر
سنوات. تجربة قيس سعيّد تبين أن المقاومة ليست مجرد احتجاج شعبي، بل تتطلب بناء
مؤسسات قوية وثقافة سياسية راسخة ووعي مجتمعي مستمر. هنا يظهر ما يسميه فخري كريم
"البنية المستمرة للاستبداد": حتى بعد الانتصار الظاهري للحرية، يمكن أن
تعود الدولة لتعيد إنتاج سلطتها القمعية إذا لم تصحبها مقاومة مستدامة ومتعددة
الأبعاد.
التحليل المقارن يتيح لنا أيضًا النظر إلى
تجارب أخرى. في مصر بعد 2013، واجه المجتمع المدني والفاعلون السياسيون نفس
المعضلة: مؤسسات موجودة لكن مُوظّفة لإعادة إنتاج الاستبداد، فضاء عام مسجون بين
أجهزة السلطة والشعبوية. في تركيا بعد 2016، يمكن ملاحظة إعادة هيكلة المؤسسات تحت
شعار مقاومة الانقلاب، مع التضييق على المعارضة الإعلامية والقضائية، وهو سيناريو
مشابه لما يصفه كريم في إطار استبداد الدولة. هذه المقارنات تؤكد أن الاستبداد في
العالم العربي ليس حالة فردية، بل نمط متكرر يعكس تراكماً تاريخياً وثقافياً وبنيوياً.
لكن، إذا أردنا تحويل التشخيص إلى
استراتيجية مقاومة، علينا النظر إلى أبعاد متعددة:
المؤسساتية: بناء مؤسسات حقيقية غير قابلة
للتسييس، تحمي الحقوق العامة وتضمن توازن السلطات.
الثقافية ـ التربوية: نشر وعي سياسي شامل،
وتعليم نقدي يسمح للمواطنين بفهم ديناميكيات السلطة، وفصل القيم الوطنية عن
الولاءات الشخصية أو الحزبية.
الاقتصادية ـ الاجتماعية: تفكيك شبكات الريع
وإعادة توزيع الموارد بعدالة، بحيث لا تعتمد الولاءات على الرشوة أو التبعية
الاقتصادية.
الفكرية ـ الفلسفية: تطوير خطاب عام يواجه
التبريرات التقليدية للاستبداد، مستنداً إلى العقل والتجربة التاريخية، كما فعل
الكواكبي والجابري، وبروح نقدية مستوحاة من أرندت وفوكو.
في نهاية المطاف، تبقى مراجعة كتاب فخري
كريم أكثر من مجرد قراءة نقدية؛ إنها دعوة للتفكير الاستراتيجي حول كيف يمكن
للمجتمعات العربية بناء فضاءات حرية حقيقية، وتحويل الدولة من كيان منتج للاستبداد
إلى إطار ضامن للحرية والمواطنة. تونس، بما حملته من تجربة انتفاض شعبي ونجاحات
هشة وانكسارات متجددة، تمثل نموذجاً حيًا لهذه المعركة المستمرة.
إن استلهام أطروحة كريم مع الاستعانة
بمنظرين ومقاومين للاستبداد يعطي الباحثين والمثقفين أدوات لفهم التحديات،
ويذكّرهم أن معركة الدولة والمجتمع ليست معركة فردية أو لحظية، بل هي صراع طويل
الأمد يتطلب وعيًا، صبرًا، واستراتيجية متعددة الأبعاد لمواجهة البنى العميقة
للاستبداد.