نشر موقع "ميديكال إكسبرس" تقريرا استند إلى
دراسة لمعهد ماكس بلانك فلوريدا لعلوم الأعصاب في جامعة فلوريدا، أشار فيه إلى أن الإنسان قادر على التحرك داخل منزله ليلا من دون الحاجة إلى إضاءة، سواء كان متجها إلى النوم أو يبحث عن وجبة خفيفة، بفضل آلية دماغية دقيقة لا تعتمد على الرؤية.
وأوضح التقرير أن هذه القدرة تعود إلى عملية عصبية تُعرف باسم "تكامل المسار"، حيث يقوم الدماغ تلقائيا بحساب الخطوات والانحناءات أثناء الحركة، ما يسمح بتحديد الموقع بدقة، وكأن العقل يعمل كجهاز تحديد مواقع داخلي يرسم خريطة ذهنية اعتمادا على الحركة لا على البصر.
ويرى باحثو معهد ماكس بلانك فلوريدا لعلوم الأعصاب أن فهم كيفية عمل تكامل المسار يمثل خطوة أساسية لفهم الطريقة التي يحول بها الدماغ التجارب اللحظية إلى ذكريات تمتد عبر الزمن.
اظهار أخبار متعلقة
ونُشرت نتائج الدراسة في مجلة Nature Communications، واعتُبرت تقدما مهما في هذا المجال، مع احتمال أن تسهم في تفسير الأعراض المبكرة لمرض
الزهايمر، والتي غالبا ما ترتبط بصعوبات في تقدير المسافة أو الوقت.
وفي إطار الدراسة، درب الباحثون فئرانا على الجري لمسافة محددة داخل بيئة واقع افتراضي رمادية خالية من أي معالم بصرية، مقابل الحصول على مكافأة، ولم يكن بإمكان الحيوانات تقدير المسافة التي قطعتها إلا من خلال تتبع حركتها الذاتية، من دون الاعتماد على أي إشارات بيئية.
وخلال تنفيذ المهمة، سجل العلماء النشاط الكهربائي الدقيق الذي تستخدمه الخلايا العصبية للتواصل، ما أتاح مراقبة نشاط آلاف الخلايا العصبية في الوقت نفسه، وركز التحليل على منطقة الحصين في الدماغ، المعروفة بدورها المحوري في الملاحة والذاكرة.
وباستخدام نماذج حاسوبية، حلل الفريق هذه الإشارات لاستخلاص القواعد الحسابية التي يعتمدها الدماغ في رسم المسار.
وقالت المؤلفة الرئيسية للدراسة ورئيسة مجموعة الأبحاث في المعهد، يينغشوي وانغ، إن الحصين معروف بمساعدته الحيوانات على تحديد مواقعها، حيث تنشط بعض الخلايا العصبية في أماكن محددة، لكنها أوضحت أن وجود مؤثرات حسية متعددة مثل المشاهد والأصوات والروائح يجعل من الصعب معرفة ما إذا كانت هذه الخلايا تستجيب للمؤشرات الحسية أم لموقع الحيوان نفسه.
وأضافت أنه في هذه الدراسة جرى تقليل الإشارات الحسية إلى الحد الأدنى لمحاكاة مواقف شبيهة بالحركة في الظلام، ما أظهر أن عددا محدودا فقط من خلايا الحصين يشير إلى موقع أو وقت محدد، وهو ما دفع الباحثين للتساؤل عن دور بقية الخلايا العصبية في تتبع الموقع عبر دمج المسافة والزمن، وهي العملية المعروفة برسم المسار.
اظهار أخبار متعلقة
وتوصل الفريق إلى أن معظم خلايا الحصين العصبية تتبع أثناء التنقل من دون معالم أحد نمطين متعاكسين من النشاط العصبي، وكلاهما ضروري لتتبع المسافة المقطوعة، ففي مجموعة من الخلايا، ارتفع النشاط العصبي بشكل حاد مع بدء الحركة، ثم انخفض تدريجيا بمعدلات متفاوتة كلما تقدم الحيوان، حتى بلوغ المسافة المطلوبة للحصول على المكافأة.
أما المجموعة الثانية، فأظهرت نمطا معاكسا، إذ انخفض نشاطها عند بدء الحركة ثم ازداد تدريجيا مع التقدم في المسافة، وبيّن الباحثون أن هذين النمطين يشكلان شفرة عصبية لحساب المسافة، تعمل عبر مرحلتين واضحتين، الأولى تشير إلى بداية الحركة وبداية احتساب المسافة، والثانية تحسب المسافة المقطوعة فعليا.
كما تبين أن الدماغ قادر على تتبع مسافات قصيرة وطويلة باستخدام خلايا عصبية تختلف في سرعة استجابتها.
وقال الباحث الرئيسي رافائيل هيلدمان إن الدماغ يشفّر المسافة أو الزمن اللازم لإنجاز المهمة عبر خلايا عصبية تُظهر أنماط نشاط متصاعدة، مؤكدا أن هذه هي المرة الأولى التي يُثبت فيها أن المسافة تُشفّر بطريقة تختلف عن التشفير المكاني المعروف في الحصين.
اظهار أخبار متعلقة
وأوضح أن النتائج توسع فهم آليات عمل الحصين، الذي يستخدم استراتيجيات متعددة، تشمل أنماط النشاط المتصاعد إلى جانب التشفير المكاني، لترميز الزمن والمسافة، وعندما عطل الباحثون هذه الأنماط من خلال التلاعب بالدوائر العصبية المسؤولة عنها، واجهت الفئران صعوبة في تنفيذ المهمة بدقة، وغالبا ما بحثت عن المكافأة في المكان الخطأ.
وأشارت وانغ إلى أن فهم كيفية ترميز الزمن والمكان في الدماغ أثناء عملية رسم المسار يعد أمرا بالغ الأهمية، لأن هذه القدرة من أولى الوظائف التي تتدهور لدى مرضى الزهايمر، وأضافت أن المرضى غالبا ما يبلغون عن أعراض مبكرة مثل فقدان التوجه في أماكن مألوفة أو عدم معرفة كيفية وصولهم إلى موقع معين.
ويعمل فريق البحث حاليا على دراسة كيفية توليد هذه الأنماط العصبية داخل الدماغ، على أمل أن يسهم ذلك في كشف الطريقة التي تُخزن بها التجارب اللحظية في الذاكرة، وفهم كيف تبدأ هذه الآليات بالاختلال في المراحل المبكرة من مرض الزهايمر.