في
مساءٍ صيفيٍّ هادئ على شاطئ بوندي في سيدني، كانت عائلات
يهودية تحتفل بعيد
الحانوكا. شموع مضاءة، أطفال يضحكون، وأجواء طمأنينة لا توحي بأي خطر. لكن المشهد
انقلب فجأة مع إطلاق نار أربك المكان، ونشر الفوضى والخوف، وجعل الموت احتمالا
حقيقيا. وسط الصراخ ومحاولات الهروب، تقدّم شاب مسلم اسمه أحمد الأحمد. لم يكن جزءا
من الاحتفال، ولم تربطه بالموجودين رابطةُ دينٍ أو ثقافة، لكنه رأى بشرا عُزّلا في
خطر مباشر. حاول مساعدتهم على الاحتماء والهروب، واضعا جسده في مسار النار، فأُصيب
بطلق ناري، ونُقل إلى المستشفى حيث يرقد متأثرا بإصابته. سقط الجسد، لكن شجاعته بقيت
صامدة
بطولة
بلا شعارات
ما
فعله أحمد الأحمد لم يكن فعلا سياسيا ولا رسالة أيديولوجية، بل اختيارا إنسانيا
خالصا في لحظة اختبار: هل ننجو وحدنا، أم ننحاز للضعفاء؟
هذه
اللحظة البسيطة في ظاهرها، العميقة في دلالتها، تفتح بابا أوسع لفهم إحدى أكثر
القضايا تشويها في الخطاب العام: هل
الصراع بين العرب وإسرائيل صراعٌ دينيٌّ حقا؟
هذه اللحظة البسيطة في ظاهرها، العميقة في دلالتها، تفتح بابا أوسع لفهم إحدى أكثر القضايا تشويها في الخطاب العام: هل الصراع بين العرب وإسرائيل صراعٌ دينيٌّ حقا؟
ليس
صراع أديان.. بل صراع مع الظلم
الصراع
الجوهري اليوم في المنطقة العربية، وبخاصة في
فلسطين المحتلة، ليس صراعا بين
الإسلام واليهودية، ولا بين المسلمين واليهود، بل هو صراعٌ أخلاقيٌّ وإنسانيٌّ مع
النهج الصهيوني بوصفه مشروعا استيطانيا إحلاليا قام -ولا يزال- على نزع الأرض،
وإقصاء السكان الأصليين، وممارسة العنف المنهجي، وتبرير القتل الجماعي باسم الأمن.
اليهود،
كجماعاتٍ دينيةٍ وثقافية، عاشوا في كنف الحضارة الإسلامية -في الأندلس، والمغرب،
ومصر، والعراق، وتونس- آمنين على دينهم وأموالهم وحياتهم، في عصورٍ كانت أوروبا
نفسها تطاردهم وتحرقهم وتطردهم. هذه ليست رواية عاطفية، بل حقيقة تاريخية موثقة
تقوّض الادعاء بأن العداء دينيٌّ بطبيعته.
النسق
الأخلاقي في الإسلام
النسق
العام في الرؤية الإسلامية لا يعادي الإنسان لديانته، بل يواجهه حين يتحول إلى
ظالمٍ معتدٍ متجبر. فالعداء ليس للهوية، بل للفعل: للاحتلال، والقتل، والطغيان،
ولسحق الضعفاء. ولهذا ظهرت عبر التاريخ نماذجُ مسلمةٌ وقفت ضد الظلم، أيّا كان
ضحيته.
مصر:
طبيب في مواجهة النازية
في
برلين النازية، خاطر الطبيب المصري محمد حلمي بحياته لإخفاء يهود، وعلاجهم، وتوقيع
تقارير طبية مزيّفة أنقذتهم من الترحيل. وكان هو نفسه تحت المراقبة والتهديد،
باعتباره عربيا مسلما لا ينتمي إلى "العرق الآري"، ومع ذلك لم يتراجع. استغل
حلمي موقعه الطبي وثقة بعض الدوائر الصحية به ليخلق هامش نجاة لضحاياه، مدركا أن
انكشاف أمره يعني السجن أو الإعدام. وبعد عقود، اعترفت مؤسسة ياد فاشيم عام 2013
بموقفه، ومنحته لقب "الصالح بين الأمم"، ليكون أول عربي مسلم يحصل على
هذا التكريم، في شهادة تاريخية تؤكد أن الشجاعة الأخلاقية لا تعترف بالهويات
المغلقة.
النسق العام في الرؤية الإسلامية لا يعادي الإنسان لديانته، بل يواجهه حين يتحول إلى ظالمٍ معتدٍ متجبر. فالعداء ليس للهوية، بل للفعل: للاحتلال، والقتل، والطغيان، ولسحق الضعفاء
المغرب:
ملك رفض التمييز
بعد
سقوط فرنسا عام 1940، خضع المغرب -بوصفه محمية فرنسية- لسلطة حكومة فيشي المتعاونة
مع ألمانيا النازية، التي طالبت بتطبيق القوانين المعادية لليهود (Statut
des Juifs)، وتشمل عزلهم من الوظائف الحكومية والتعليم، وفرض قيود على
التجارة والملكية، وإعداد قوائم رسمية تمهيدا لعزلهم اجتماعيا وسياسيا، كما حدث في
أوروبا. ورغم أن صلاحيات الملك كانت محدودة دستوريا بسبب نظام الحماية، فإن الملك
محمد الخامس رفض أن يكون أداة لتنفيذ هذه السياسات؛ فرفض تسليم قوائم اليهود
المغاربة، ورفض التوقيع على مراسيم التمييز، وحرص على حضور ممثلي اليهود في
الاحتفالات الرسمية، ولا سيما احتفالات العرش.
لم
يستطع الملك إلغاء القوانين رسميا، لكنه فرّغها من مضمونها، وهو ما أنقذ عشرات
الآلاف من اليهود المغاربة من مصيرٍ مشابه ليهود أوروبا. ومما يُؤثَر عنه عبارته
المشهورة: "ليس في المغرب يهودٌ ومسلمون، بل مغاربة فقط".
تونس:
حماية في زمن الاحتلال
في تشرين
الثاني/ نوفمبر 1942، دخلت القوات الألمانية النازية إلى تونس، لتكون الدولة
العربية الوحيدة التي خضعت لاحتلالٍ نازيٍّ مباشر. خلال هذه الفترة، فُرضت أعمال
السخرة القسرية على آلاف اليهود، وأُقيمت معسكرات عمل، وتعرّضوا للإذلال والابتزاز
والمصادرة، كما هُدِّدت عائلاتٌ يهودية بالاعتقال والترحيل، وكان الضباط الألمان
يتمتعون بسلطةٍ كاملة، ويُعاقَب من يخالفهم بالإعدام أو السجن الفوري.
في
عام 1942، علم خالد عبد الوهاب أن ضابطا نازيا ألمانيا يخطط للاعتداء على عائلة
يهودية تونسية (عائلة بوخريس وعدة عائلات أخرى)، وأن الأمر قد يتطور إلى قتل أو
اعتقال جماعي. في تلك اللحظة، اتخذ قرارا بالغ الخطورة؛ فتوجّه إلى العائلات
المهددة، وطلب منها مغادرة منازلها سرا، ونقلها ليلا إلى مزرعته الخاصة، ووفّر لها
مأوى آمنا وغذاء. وقد بلغ عدد من أنقذهم نحو عشرين شخصا بين رجال ونساء وأطفال.
واستمر في حمايتهم عدة أشهر حتى انسحاب القوات النازية من تونس عام 1943.
الجزائر:
أمير يتقدّم على عصره
عام
1860، وخلال الاضطرابات الطائفية التي اجتاحت دمشق، فتح الأمير عبد القادر
الجزائري بيته وأحياء كاملة خاضعة لنفوذه لإيواء آلاف المسيحيين واليهود
المهدَّدين بالقتل. استخدم مكانته الدينية والاجتماعية لردع المعتدين، وأرسل رجاله
لحماية المدنيين، مؤكدا أن الدفاع عن الأبرياء واجبٌ دينيٌّ وأخلاقيٌّ يتقدّم على
أي حسابٍ سياسي.
تفكيك
السردية الصهيونية
تعتمد
السردية الصهيونية على معادلةٍ تبسيطيةٍ خطيرة: كل مسلمٍ إرهابيٌّ محتمل، وكل
فلسطينيٍّ تهديدٌ وجوديّ.
لكن
النماذج السابقة -من الأمير عبد القادر إلى أحمد الأحمد- تُفكّك هذه الرواية من
جذورها؛ فالمشكلة ليست في الدين، ولا في المسلمين، بل في الظلم حين يتحول إلى
سياسة، والطغيان حين يُبرَّر، والقتل الجماعي حين يُقدَّم بوصفه دفاعا عن النفس.
خلاصات
- الصراع
في فلسطين ليس دينيا، بل أخلاقيٌّ وإنسانيّ.
- الإسلام
لا يعادي الإنسان لهويته، بل يقف ضد ظلمه وعدوانه.
- الأديان
وُجدت للتراحم، لا للعداء.. "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة
لِلْعَالَمِينَ".
- إبراز
النماذج الإنسانية الحقيقية ضرورة لتفكيك خطاب
الكراهية.
- الدفاع
عن فلسطين موقف إنساني ضد الإبادة والاقتلاع، لا صراع هويات.