وفقا لتقرير نشره موقع "
بي بي سي"، تعود قصة موتوكو إنغاتي، وهو شاب كيني من جنوب البلاد، إلى نحو 85 عاما مضت، حين غادر قريته ذات صباح ولم ير بعدها قط. كان إنغاتي في الثلاثينيات من عمره عندما اختفى فجأة دون أن يترك أثرا أو تفسيرا، فيما أمضت أسرته سنوات طويلة في البحث عنه، تتبع الخيوط والأنباء التي سرعان ما كانت تتلاشى، حتى فقد الجميع الأمل وعاد الصمت ليغلف الحكاية.
ومع مرور العقود، تلاشى ذكر الرجل من ذاكرة قريته الصغيرة، خاصة أنه لم يكن له أبناء، بينما رحل معظم من عرفوه عن الحياة. لكن بعد أكثر من ثمانية عقود، عاد اسمه للظهور، ليس في
كينيا، بل في السجلات العسكرية البريطانية.
فقد أعلنت لجنة قبور حرب الكومنولث (CWGC) – وهي الهيئة البريطانية المسؤولة عن تخليد ذكرى الجنود الذين قتلوا في الحربين العالميتين – أنها عثرت على وثائق تشير إلى أن إنغاتي كان أحد المجندين في الجيش البريطاني خلال
الحرب العالمية الثانية. وذكرت اللجنة أنها تواصلت مع بنجامين موتوكو، ابن شقيقه، بعد أن استخرجت من الأرشيف العسكري البريطاني وثائق نادرة تكشف ما حدث للرجل الذي اختفى قبل عقود.
وتظهر السجلات أن إنغاتي غادر قريته سياماتاني متجها نحو نيروبي، على بعد نحو 180 كيلومترا غربا، حيث كانت تقع آنذاك مقرّات الإدارة الاستعمارية البريطانية. وهناك، التحق بوحدة الكشافة شرق الإفريقية (East African Scouts) التابعة للجيش البريطاني، والتي شاركت في القتال خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي ذلك الوقت، كانت
بريطانيا تجند ملايين الرجال من مستعمراتها للمشاركة في المعارك العالمية. وتشير الوثائق إلى أن إنغاتي استجاب لتلك الدعوة، غير أن تفاصيل تجنيده تظل غامضة، فيما تؤكد السجلات أنه قتل في 13 حزيران/يونيو 1943 في أثناء المعارك، من دون أن يعرف مكان أو ظروف وفاته، أو حتى موضع دفنه.
وكما حدث مع آلاف الجنود الكينيين الذين قاتلوا تحت راية الجيش البريطاني، لم تتلقّ عائلته أي إشعار بوفاته، ولم يعثر على قبره حتى اليوم.
ويأتي هذا الكشف بالتزامن مع احتفال بريطانيا بيوم الذكرى (Remembrance Sunday) لتكريم من ساهموا في المجهود الحربي، في وقت يؤكد فيه التقرير أن تضحيات الجنود الأفارقة – مثل إنغاتي – ظلت منسية وغير معترف بها رسميا، بخلاف ما ناله الجنود البيض من تكريم وشواهد وأوسمة.
وبعد مرور كل هذه السنين، يقول بنجامين موتوكو، البالغ من العمر 67 عاما، إنه شعر بالارتياح لمعرفة مصير عمه أخيرا، رغم أنه لم يلتقه قط. ويضيف في حديثه لـ"بي بي سي": "كنت دائما أسأل والدي: أين الشخص الذي سميت على اسمه؟".
لكن فرحته لم تخل من الغضب، إذ يؤلمه أن جثمان عمه يرقد في مكان مجهول بعيد عن أرضه، مخالفا لتقاليد قبيلة أكامبا التي تؤمن بضرورة دفن الميت بالقرب من أسرته. ويقول: "لم أحظ بفرصة رؤية قبره، كنت أتمنى أن أعرف أين دفن".
وأكدت لجنة قبور حرب الكومنولث أنها تعمل حاليا على تحديد مكان مقتل إنغاتي وموقع دفنه، ضمن مشروع أوسع لإعادة اكتشاف قصص الجنود الكينيين والشرق أفارقة المنسيين الذين خدموا في صفوف الجيش البريطاني خلال الحربين العالميتين.
ويضيف التقرير أن اللجنة، بالتعاون مع قوات الدفاع الكينية، نجحت مؤخرا في اكتشاف أرشيف عسكري استعماري نادر يعود إلى فترة الحرب العالمية الأولى، كان يعتقد أنه دمر منذ عقود. وكشف الأرشيف عن أسماء وقصص أكثر من 3 الآف جندي خدموا في وحدة بنادق الملك الإفريقية (King’s African Rifles)، وهي قوة مكونة من جنود من شرق إفريقيا حاربت القوات الألمانية في ما يعرف اليوم بـتنزانيا خلال الحرب الأولى، ثم واجهت القوات اليابانية في ميانمار خلال الحرب الثانية.
ويقول المؤرخ جورج هاي من اللجنة لـ"بي بي سي": "هذه ليست مجرد ملفات قديمة، بل قصص شخصية حقيقية. بالنسبة لكثير من العائلات الإفريقية، ستكون هذه المرة الأولى التي تكتشف فيها أن أحد أقاربها شارك في الحرب".
ومن بين الأسماء التي كشفتها السجلات، اسم جورج ويليامز، وهو رقيب أول في وحدة بنادق الملك الإفريقية، يبلغ طوله نحو 1.70 متر وله ندبة على ذقنه. وقد نال عدة ميداليات تقديرا لشجاعته ودقته في الرماية، قبل أن يقتل في موزمبيق عام 1918، أي قبل أربعة أشهر فقط من نهاية الحرب العالمية الأولى.
كما ورد في الأرشيف اسم عبد الله فادلومولا، وهو جندي أوغندي التحق بالوحدة عام 1913 وعمره 16 عاما فقط، لكنه قتل بعد 13 شهرا أثناء هجوم على موقع ألماني في تنزانيا.
ويختتم التقرير بالإشارة إلى أن هذه الجهود البحثية تمثل خطوة مهمة نحو إعادة الاعتبار للجنود الأفارقة الذين قاتلوا وماتوا في حروب لم تكن حروبهم، ودفنوا في أماكن مجهولة دون أن تحمل قبورهم أسماءهم، بينما ظلت تضحياتهم بعيدة عن الذاكرة الرسمية لعقود طويلة.