قد لا نكون ممن يفهمون في السياسة واستراتيجيا الحروب
بما يكفي.. لكننا قد نستطيع تشمم الروائح المريبة الغريبة من "قلب الأحداث"
حين تبدأ في الانحراف والخروج عن سياقها ومسارها. وما تفعله الدولة الصهيونية منذ
بدء "طوفان الأقصى" في حروبها الإقليمية غير المفهومة، إلى جانب
الحرب
القائمة في
غزة، والتي تمثل التحدي الأكبر لتلك الدولة منذ عامين، لهو أمر يحتاج إلى
تفسير، والنظر به في المصير.
الحرب في غزة، هي حرب "عجزت" الدولة الصهيونية
عن حسمها، أو الخروج منها، تحت أي عنوان من عناوين الخروج، هذه حرب لم تعرفها
إسرائيل من قبل في صراعها مع محيطها العربي منذ إعلان الدولة.
هيئة البث الإسرائيلية قالت في خبر لها الأسبوع الماضي إن
قادة الأجهزة الأمنية أبلغوا نتنياهو أن العملية الجديدة في مدينة غزة قد تطول دون
تحقيق أهدافها، وستؤدي لقتل بعض الرهائن.
* * *
الحرب الطويلة في غزة، والعجز عن تحقيق أهدافها هو "قلب الموضوع" الذي تحاول الدولة الصهيونية "الهروب" من مواجهته أو مواجهة نتائجه، وذلك عبر حروب متتالية في جبهات متعددة
الحرب الطويلة في غزة، والعجز عن تحقيق أهدافها هو "قلب
الموضوع" الذي تحاول الدولة الصهيونية "الهروب" من مواجهته أو
مواجهة نتائجه، وذلك عبر حروب متتالية في جبهات متعددة.
كل الحروب الإقليمية التي خاضتها إسرائيل في السنتين
الماضيتين، بما فيها قصف الدوحة العاصمة
القطرية الأسبوع الماضي، هي حروب هروب من
النهاية، التي ستصبح نهايات عديدة وليست نهاية واحدة، لثوابت كانت من قبل مؤكدة وأكيدة،
ولم تتوقع "الصهيونية العالمية" فتح بواباتها بهذه السرعة، وفي توقيت قد
يكون الأسوأ دوليا بالنسبة للجميع.
والحديث المتكرر عن "أبدية" إسرائيل، وحروبها
الوجودية، هو نفس الحديث المتكرر للجبناء عن الشجاعة، واللصوص عن الشرف، والخونة
عن الأمانة، كما قال لنا الكاتب الإنجليزي شكسبير على لسان هاملت.
* * *
لكن المسألة ليست فقط العجز عن تحقيق الأهداف من الحرب
في غزة، وإنما هناك ما هو أخطر من ذلك، هناك شيء ما، هام وخطير، حدث في بنية
الدولة والمجتمع، خاصة فيما يتعلق بتماسك "الرابطة العضوية" القومية
والدينية، لا سيما في أوقات الخطر والتهديد، وأيضا "الرابطة التعاقدية"
التي تنظم حياة المواطنين في الأحوال العادية داخل المجتمع نفسه.
هذه أشياء تم شرخها وتصدعها، وبما لا يمكن تداركه بسهولة،
لأن الحديث هنا ليس عن مجتمع (أمة) ضارب بجذوره في أعماق التاريخ والجغرافيا، وعلى
نحو موصول، نحن نتحدث عن مجتمع تم "استزراعه" في وسط حضاري منيع وصلب، وله
في كل عوامل المَنعة الحضارية رصيد ضخم، حتى في أوقات الضعف والانكسار، وبما يحمل
اليه دائما عظيم الأمل في النهوض والقيام.
* * *
هذا الاستزراع المصطنع تم لأغراض عارضة، لا يمكنها
بقوانين التاريخ أن تمنحه بقاء دائما مستقرا أو "أبديا" كما يرددون..
حنا ارندت (ت: 1975م)، المفكرة اليهودية الألمانية، كانت
دائمة التشكيك في فكرة مشروع صهيوني تبشيري (ليهود العالم) يدعو للعودة لبلاد
الأسلاف كوطن ميثولوجي (أساطير وقصص تراثية مقدسة)، بل وكانت من الأصوات المبكرة
جدا، التي فضحت تعاون المجالس اليهودية مع النظام النازي في المانيا، مما زعزع
الاعتقاد بأن اليهود هم "ضحايا دائمون".
في عام 2011 م تحدث الفيلسوف البولندي الشهير زيجمونت
بومان (ت: 2017م) عن نفس المعنى في مقابلة صحفية، وقال: إسرائيل تستخدم الهولوكوست
كعذر، لشرعنة أفعالها المتوحشة، وشبّه الحواجز التي تضعها إسرائيل في الضفة الغربية
(وقتها) بالجدران التي كانت تضعها النازية في وارسو، عندما قُتل اليهود في
الهولوكوست.
* * *
من أهم عطاءات "طوفان الأقصى" وما قدمته للأمة
والتاريخ، وبأثمان غالية جدا وباهظة جدا، هو شمولية المعركة، والذهاب بها إلى
مداها الأقصى في كل ما يتعلق بها استراتيجيا وتاريخيا.
بعد خروج هذه الأصوات الأكاديمية الصادقة من محابسها إلى
"شوارع" الدنيا والناس، أصبحت شيطنة الخصم بأنه "معاد للسامية"
كما فعلوا مع الفيلسوفة الألمانية؛ حديثا مضحكا وأقرب إلى التندر والتفاكه، وبات
المشهد كله يتسع لسماع الحقيقة كما هي، عن دولة "بدأت" بالمجازر والدماء،
و"انتهت" بالمجازر والدماء.
تراكمات متتالية ومتقاربة ومتسارعة من الفشل المتكرر، بعضها فوق بعض، وتشير إلى حقيقة أوضح من شمس النهار تقول: لقد أصبحت نهاية إسرائيل أقرب من أي وقت مضى
من الهاجاناة والبالماخ والأرجون وشتيرن (في عشرينات
القرن الماضي).. إلى نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وآفي ماعوز (في عشرينات القرن
الحالي)، كل ذلك يطالعه العالم اليوم، ويسمعه، كأن ما كان يحدث على مدى قرن كامل في
تلك البقعة، من كوكب الأرض، كان يحدث في كوكب أخر. شهدتم البدايات الدموية وصمتّم، ولا صمت بعد الآن.
* * *
وها قد شاهدنا وشاهد العالم كله تعريف مركز تشاتام هاوس
في لندن بالرئيس الإسرائيلي، خلال مقابلة أجراها معه الجمعة (12 أيلول/ سبتمبر). ففي
مشهد أقرب للصدمة والفضيحة، قدمته الرئيسة التنفيذية للمركز أمام الجمهور قائلة: الرئيس
الذي تسبب جيشه في تجويع الأطفال، وقتل 60 ألف فلسطيني، بينما تعرضت قطر وعدة دول
أخرى للقصف!
المدهش أن عملية القصف التي تمت في قطر الثلاثاء الماضي،
كانت فشلا ذريعا للدولة التي اتخذت القرار، والجيش الذي نفذ القرار، والاستخبارات التي
قدمت المعلومات للقرار، لقد كانت محض فشلا ذريعا، كما قالت القناة 13 الإسرائيلية،
وكتبت بعدها جريدة هآرتس: الهجوم الفاشل على الدوحة يبدد وهم قدرة إسرائيل على فعل
ما تريد..
* * *
نحن أمام مشهد لا تخطئ العيون دلالاته، ولا يخطئ التاريخ
اعتباراته، لتراكمات متتالية ومتقاربة ومتسارعة من الفشل المتكرر، بعضها فوق بعض،
وتشير إلى حقيقة أوضح من شمس النهار تقول: لقد أصبحت نهاية إسرائيل أقرب من أي وقت
مضى، وبما لا يريد الغرب/ الصهيوني الاعتراف به.
x.com/helhamamy