قضايا وآراء

لماذا تتفكك الديمقراطية الغربية من الداخل؟

سمير الخالدي
السؤال الحقيقي اليوم ليس ما إذا كانت الديمقراطية ستسقط، بل إن كانت ستبقى قادرة على الدفاع عن معناها الأصلي.. الأناضول
السؤال الحقيقي اليوم ليس ما إذا كانت الديمقراطية ستسقط، بل إن كانت ستبقى قادرة على الدفاع عن معناها الأصلي.. الأناضول
في المقال السابق، طرحت سؤالا يثير الكثير من الجدل: هل تمرّ الديمقراطية الغربية بمرحلة اضطراب عابرة أم أنها بدأت تتفكك من داخلها؟

ناقشت فيه كيف أن الانحدار الديمقراطي لا يأتي اليوم بانقلابات عسكرية أو حروب أهلية، بل يتسلل بهدوء من قلب المؤسسات التي وُجدت لحمايته. فالقوانين ما زالت قائمة، لكن الإيمان بها يضعف، والانتخابات تُجرى، لكن الثقة بنتائجها تتآكل. ووفقا لاستطلاع لمركز “PEW” عام 2024، فإن أقل من 23٪ من الأمريكيين يقولون إنهم يثقون بالحكومة الفدرالية، وهي أدنى نسبة منذ سبعين عامًا. هذه الأرقام وحدها كافية للدلالة على أن التفكك بدأ من الداخل، لا من الهامش.

غير أن هذا التوصيف، على أهميته، لا يفسر سبب هذا الانحدار. لماذا انقلبت المجتمعات التي كانت تعتبر الحرية أساس وجودها إلى مجتمعات تبحث عن القيد طواعية؟ ولماذا صار كثير من المواطنين الغربيين مستعدين للتنازل عن حقوقهم مقابل وعد بالأمان أو بالاستقرار؟

يبدو أن أصل الأزمة أعمق من السياسة. فالديمقراطية لم تُخترع لتكون مجرد آلية حكم، بل كانت مشروعا أخلاقيا يؤمن بقدرة الإنسان على إدارة نفسه بحرية ومسؤولية. لكن الحداثة الغربية حين دفعت بالفردانية إلى أقصاها، فصلت الحرية عن معناها الجماعي. صار الفرد مركز العالم، وانكمش مفهوم المواطنة إلى علاقة نفعية مع الدولة. يشير تقرير صادر عن جامعة أكسفورد في 2023 إلى أن أكثر من نصف الشباب الأوروبيين بين 18 و35 عاما "لا يرون فرقا كبيرا بين الديمقراطية والنظام القوي الذي يحقق نتائج". حين يصل الشك إلى هذا الجيل، تكون الديمقراطية قد فقدت لغتها المشتركة.

لقد نجحت الليبرالية في تحرير الإنسان من السلطة، لكنها فشلت في تحريره من العزلة. المواطن الغربي يعيش اليوم أكثر حرية من أي وقت مضى، لكنه أيضا أكثر وحدة وأقل انتماء. الخوف من المستقبل، من التغير، من الآخر، من الفوضى، أصبح هو المحرك الخفي لكل نزعة سلطوية جديدة. تشير دراسة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إلى أن “الخوف من الهجرة” هو العامل الأول الذي يفسر ارتفاع التأييد للأحزاب اليمينية المتطرفة في 14 دولة من أصل 27 داخل الاتحاد الأوروبي. وكلما ازداد الخوف، تضاعفت الرغبة في النظام الصارم والقيادة القوية.

الديمقراطية لم تُخترع لتكون مجرد آلية حكم، بل كانت مشروعا أخلاقيا يؤمن بقدرة الإنسان على إدارة نفسه بحرية ومسؤولية. لكن الحداثة الغربية حين دفعت بالفردانية إلى أقصاها، فصلت الحرية عن معناها الجماعي. صار الفرد مركز العالم، وانكمش مفهوم المواطنة إلى علاقة نفعية مع الدولة. يشير تقرير صادر عن جامعة أكسفورد في 2023 إلى أن أكثر من نصف الشباب الأوروبيين بين 18 و35 عاما "لا يرون فرقا كبيرا بين الديمقراطية والنظام القوي الذي يحقق نتائج". حين يصل الشك إلى هذا الجيل، تكون الديمقراطية قد فقدت لغتها المشتركة.
المفارقة أن هذا الخوف لم يعد سياسيا فقط، بل أصبح اقتصاديا وثقافيا أيضا. فحسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، تراجعت القدرة الشرائية للطبقة الوسطى في أوروبا بنسبة 8٪ منذ عام 2010، في حين تضاعفت ثروات 10٪ من السكان. هذه الهوة المتزايدة خلقت شعورا واسعا بالظلم جعل المواطن يرى في الديمقراطية واجهة تخدم القلة، لا منظومة تحمي الكثرة. وهنا تنقلب المعادلة: ما كان يُفترض أن يكون نظاما للحريات يتحول إلى نظام للخوف، وما كان يُفترض أن يضمن المشاركة يتحول إلى أداة للسيطرة الناعمة.

في هذا السياق، تلعب التكنولوجيا دور الحارس الجديد. فالمراقبة لم تعد تُفرض بقوة الدولة، بل تُمارس عبر خوارزميات الشركات الكبرى التي تعرف الإنسان أكثر مما يعرف نفسه. وفق دراسة جامعة هارفارد لعام 2024 حول “الاستبداد الرقمي”، فإن 72٪ من مستخدمي الإنترنت في العالم يخضعون لشكل من أشكال جمع البيانات القسرية دون علمهم الكامل. هذا الرقم يعكس انتقال السلطة من الدولة إلى التقنية، ومن المواطن إلى الخوارزمية. إننا أمام طغيان بلا طغاة، واستبداد يمارسه السوق باسم الراحة والفعالية. المواطن يختار، لكنه يختار داخل حدود رسمتها له الشاشات والإعلانات والتطبيقات. وهكذا يصبح الاستبداد مقبولا لأنه غير مرئي، ويُمارس بالإقناع لا بالإكراه.

الديمقراطيات لا تموت حين تُلغى مؤسساتها، بل حين يتعب مواطنوها من الدفاع عنها. اليوم نرى هذا التعب الحضاري في أوضح صوره. الناس يريدون نتائج سريعة، قرارات حاسمة، يقينا بلا جدل. تشير بيانات "إيدلمان تراست باروميتر 2024" إلى أن 61٪ من الأوروبيين يعتقدون أن “الأنظمة الديمقراطية أصبحت غير فعالة في مواجهة الأزمات”. وحين يتعب الناس من الفوضى، يصبح النظام السلطوي مغريا أكثر من الحرية نفسها.

إن التعب من الحرية أخطر من القمع، لأنه يولّد استبدادا يخرج من القاع لا من القمة. لا يحتاج الأمر إلى انقلاب أو مؤامرة؛ يكفي أن يقرر المواطن أنه لا يريد أن يشارك بعد الآن. في تلك اللحظة، تموت الديمقراطية موتا ناعما، وتبقى رموزها وشعاراتها، بينما روحها تغيب تدريجيا تحت ضغط الخوف والرغبة في البساطة.

ما نراه اليوم ليس أزمة نظام سياسي فحسب، بل أزمة حضارية أعمق. فالغرب الذي بشّر العالم بنهاية التاريخ، وجد نفسه أمام فراغ قيمي لا يملؤه التقدم التكنولوجي ولا الثراء الاقتصادي. حين تُفصل الحرية عن العدالة، وحين تُختزل الديمقراطية في صناديق الاقتراع، تفقد الأنظمة معناها الأخلاقي وتتحول إلى قشرة بلا مضمون. لذلك يرى المفكر العربي عزمي بشارة أن "استعادة الديمقراطية لن تتم إلا بإعادة وصلها بالقيم الإنسانية الكبرى: الكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية. فالديمقراطية ليست آلية، بل أخلاق جماعية قبل كل شي".

المستقبل، إذن، مفتوح على احتمالين. إما أن تنجح المجتمعات الغربية في تجديد عقدها الاجتماعي وإحياء الثقة بين المواطن والدولة، أو تنزلق إلى شكل جديد من الحكم الهجين: ديمقراطية من الخارج، سلطوية من الداخل. انتخابات تُجرى بانتظام، وإعلام لا يقول الحقيقة، ومواطن مطيع يعتقد أنه يختار بحرية بينما تُختار اختياراته مسبقا.

هكذا يبدو أن الخطر الأكبر لا يأتي من الأعداء الخارجيين، بل من داخل الإنسان نفسه. فحين يُفضّل الأمان على الحرية، وحين يستبدل المسؤولية بالراحة، يفتح الباب لعودة الطغيان بأدوات جديدة ولغة جديدة. هذه ليست نهاية الديمقراطية الغربية، بل تحوُّلها إلى نسخة مريحة من الاستبداد، استبداد يبتسم ويقنع ولا يحتاج إلى قمع.

إن السؤال الحقيقي اليوم ليس ما إذا كانت الديمقراطية ستسقط، بل إن كانت ستبقى قادرة على الدفاع عن معناها الأصلي. فحين تتحول الحرية إلى مجرد شعار، والسياسة إلى فرجة، والمواطن إلى متفرج، يصبح الطريق إلى الاستبداد ممهّدا بالنوايا الحسنة. وهكذا يموت النظام الحرّ، لا بصوت المدافع، بل بصمت الشعوب التي اختارت الطاعة باسم الأمان.
التعليقات (0)