ثلاث جمل "لن
نسكت، ولن نركع، ولن ننسى". ثلاث تختزل روح وثيقة "ميثاق العهد والعمل"
التي أطلقها
شباب مصر (جين زد 002) في الأيام الأولى من كانون الأول/ ديسمبر 2025
وأُطلقت للاطلاع والتصويت عليها، وهي أول محاولة منذ سنوات طويلة لصياغة رؤية
وطنية موحدة خارج إطار الدولة العسكرية التي تحكم البلاد منذ انقلاب 23 تموز/ يوليو
1952.
هذه الوثيقة ليست
مجرد ورقة سياسية، بل صرخة جيل كامل يرفض أن يُختزل دوره في "لايكات"
على تيك توك أو هجرة على قوارب الموت.
تتكون الوثيقة من
ثلاثة محاور رئيسة يعرفها الشباب بأنفسهم: القسم الثالث عهدنا (التزاماتنا
الوطنية)، القسم الثاني منهجنا (كيف نعمل)، القسم الأول رؤيتنا (مصر التي نريدها).
وهي ببساطة خريطة طريق لمصر ما بعد الاحتلال العسكري.
القسم الأول:
رؤيتنا.. مصر التي يحلم بها جيل زد
هذه ضربة قاصمة لاستراتيجية النظام التي تعتمد دائما على "الحوار الوطني" المزيف لامتصاص الغضب واللعب بأعصاب المعارضة
بدأ الميثاق
بجملة صاعقة: "مصر التي نريدها دولة قانون ومؤسسات، فصل السلطات، رقابة
دستورية حقيقية، جيش في ثكناته، أمن وطني لا أمن نظام". هذه ليست شعارات، بل
نقاط محددة ومركزة:
1- دولة مدنية ديمقراطية حديثة لا مكان فيها
لحكم الفرد أو الوريث أو "الرئيس الضرورة".
2- إلغاء كل القوانين التي تجعل الجيش دولة
داخل الدولة، وإعادة هيكلة كاملة للمؤسسة العسكرية تحت رقابة برلمان منتخب.
3- محاكمات عادلة لكل من تورط في قتل أو
تعذيب أو سرقة المال العام منذ 25 يناير 2011 حتى اليوم.
4- استعادة الأموال المنهوبة، وإعلان كل
صفقات السلاح والمشروعات التي تمت بسرية تامة منذ 2013.
5- إطلاق سراح كل سجناء الرأي فورا، وإلغاء
قانون التظاهر، وقانون الطوارئ، وقانون الإرهاب الذي صيغ ليطال أي صوت معارض.
لم يكتب الشباب هذه
البنود من فراغ، هم أبناء جيل عاش 2011 وهو في المدرسة، ثم استيقظ على فض اعتصام
رابعة بالرصاص الحي وهو في الجامعة، ثم وجد نفسه عاطلا أو مهاجرا أو مسجونا بسبب
منشور فيسبوك وهو في العشرينات. هم يعرفون بالضبط ماذا يريدون لأنهم عاشوا بالضبط
عكسه.
القسم الثاني:
منهجنا.. كيف سنحقق هذا؟
يأتي هذا الجزء
الذي أرعب نظام بأكلمه، لم يعلن الشباب عن حزب أو تنظيم سري أو دعوة للعنف، بل
وضعوا منهجا أشد خطرا على الأنظمة الاستبدادية: العصيان المدني السلمي المُنَظَّم
والمُمَدَّد زمنيا.
من بين النقاط
التي وردت صراحة:
1- مقاطعة كل المنتجات والشركات التي تمول
النظام أو تتعاون مع أجهزته القمعية.
2- مقاطعة الانتخابات المزورة مسبقا، وتحويل
يوم الانتخابات إلى يوم عصيان مدني شامل.
3- تنظيم حملات توعية في القرى والنجوع
والجامعات والمدارس تحت شعار "مصر مش للبيع".
4- بناء شبكات تضامن شعبية لدعم أسر
المعتقلين والشهداء والمهجرين قسريا.
4- توثيق الانتهاكات يوميا ونشرها عالميا
باللغات الحية.
الأخطر أن
الوثيقة تنص صراحة على: "رفض أي حوار أو تفاوض مع من قتلونا وسرقونا
وأذلونا". هذه ضربة قاصمة
لاستراتيجية النظام التي تعتمد دائما على "الحوار الوطني" المزيف
لامتصاص الغضب واللعب بأعصاب المعارضة.
القسم الثالث:
عهدنا.. التزاماتنا الشخصية
يتحول الميثاق من
وثيقة سياسية إلى ميثاق شرف، كل شاب وقّع عليه (والتوقيع مفتوح للجميع عبر منصات
رقمية مشفرة) يتعهد بما يلي:
1- أن يضع مصر فوق أي اعتبار شخصي أو عائلي
أو وظيفي.
2- ألا يقبل وظيفة في أي جهاز قمعي أو مؤسسة
تابعة للنظام العسكري.
3- ألا يشارك في أي انتخابات أو استفتاءات
مزورة.
4- أن يدافع عن كرامة المصريين حتى لو كلفه
ذلك حريته أو حياته.
في أسبوع واحد
فقط تجاوز عدد الموقعين 20 ألفا (حسب إحصاءات المنصة الرسمية للميثاق)، وهو رقم لم
يحققه أي حزب سياسي في مصر منذ عقود.
لماذا يرعب
الميثاق النظام؟
لأنه يضرب في
صميم ثلاثة أشياء يعتمد عليها النظام العسكري لبقائه:
أولا: أسطورة
"الشباب مش عايز حاجة غير أكل عيش". الميثاق يثبت أن هناك جيلا
كاملا مستعد للتضحية من أجل الكرامة حتى لو جاع.
ثانيا: أسطورة
"مفيش بديل". الميثاق يقدم بديلا واضحا، منظما، سلميا، شعبيا، ولا
يعتمد على زعيم أو حزب أو تمويل خارجي.
ثالثا: أسطورة
"الشعب خايف". مليون توقيع في أسبوع، من شباب يعرفون أن التوقيع قد
يكلفهم الاعتقال، يعني أن الخوف قد انكسر فعلا.
رد فعل النظام:
الرعب المُقنَّع بالسخرية
في البداية حاولت
وسائل الإعلام العسكري تصوير الوثيقة على أنها "عبث شباب على تيك توك"،
لكن عندما تجاوز عدد الموقعين 20 ألفا فقط على ديسكورد، تحولت اللهجة إلى التهديد
المباشر.
لكن الشباب كانوا
أذكى، الميثاق موجود على شبكات تور، وعلى تليغرام، وعلى منصات لامركزية، كلما
حجبوا رابطا سيظهر عشرة، كلما اعتقلوا عشرة وقّع ألف.
جيل زد المصري:
الجيل الذي لم يعد يخاف الموت لأنه عاش ميتا
هذا هو السر
الحقيقي، جيل ولد في التسعينيات وأوائل الألفية الثانية عاش أسوأ 15 سنة في تاريخ
مصر الحديث:
1- شهد مذبحة رابعة وهو في الثانوية.
2- تخرج من الجامعة ليجد معدل بطالة 40 في
المئة بين الشباب.
3- حاول يسافر فوجد تأشيرة شينغن تكلف 15 ألف
دولار.
4- فتح فيسبوك فوجد زميله معتقل بسبب منشور.
5- فتح إكس فوجد تريند "#ارحل_يا_سيسي"
يتم حذفه في ساعات.
6- فتح تليغرام فوجد قنوات بتبيع أخبار
المعتقلين بالقطارة.
هذا الجيل لم يعد
لديه ما يخسره. الموت بالنسبة له ليس أسوأ من الحياة تحت الاحتلال العسكري.
الرسالة الأخيرة
في الميثاق
تنتهي الوثيقة
بجملة كتبها شباب عمره لا يتجاوز أعمارهم 25 سنة، وأصبحت شعار الجيل كله: "نحن لسنا
ثورة جديدة.. نحن استكمال
ثورة لم تنتهِ. ثورة بدأت في 25 يناير 2011 وتم اختطافها، ونحن الآن نستردها. لن
نطلب منكم أن تتركوا الكراسي.. سنسحبها من تحتكم، سحبا بطيئا، مؤلما، يوما بعد
يوم، حتى تسقطوا بأنفسكم".
هذا ليس تهديدا
بالعنف، هذا وعد بعصيان مدني شامل، ممتد، لا يمكن لأي جيش أو شرطة أو إعلام أن
يوقفه. النظام يعرف ذلك،
لذلك يرعبونه مليون توقيع. ولذلك سيأتي اليوم الذي يتم فيه طباعة هذا الميثاق في
كتب التاريخ تحت عنوان: "الوثيقة التي أسقطت آخر ديكتاتوريات القرن العشرين
في العالم العربي".
الشباب ليسوا
قادمين.. الشباب موجودون بالفعل، والميثاق ليس ورقة.. الميثاق عهد، والعهد دين،
والدين يُسدد. مصر لن تتحرر بمعجزة.. مصر ستتحرر بجيل قرر أن يعيش حرّا، أو يموت
واقفا.