في لحظة لافتة جمعت بين الرمزية السياسية
والدلالة الإنسانية، احتضنت السفارة السعودية في الرباط، مساء الثلاثاء 23
أيلول/سبتمبر 2025، لقاءً نادرًا بين رئيس الحكومة
المغربية الأسبق والأمين العام
لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران، ووزير العدل الحالي والأمين العام
السابق لحزب الأصالة والمعاصرة عبد اللطيف وهبي، وذلك خلال حفل الاستقبال الذي
أقامته السفارة بمناسبة العيد الوطني للمملكة العربية السعودية.
ورغم ما بين الرجلين من خلافات حادة وسجالات
علنية واتهامات متبادلة طيلة السنوات الماضية، فقد شهد
اللقاء لحظة إنسانية مؤثرة
حين أقدم وهبي على تقبيل رأس بنكيران أمام الحاضرين، في مشهد أثار اهتمامًا واسعًا
في الأوساط السياسية والإعلامية المغربية، واعتُبر خطوة رمزية تتجاوز بروتوكول
المناسبة إلى ما هو أعمق في الدلالات السياسية.
خصمان سياسيان تحت سقف واحد
يمثل اللقاء، وفق الكاتب والباحث في الشؤون السياسية المغربية
الدكتور نور الدين لشهب، لحظة استثنائية في المشهد السياسي المغربي، إذ طالما
اتسمت العلاقة بين بنكيران ووهبي بالتوتر والحدة، سواء خلال فترة تولي بنكيران
رئاسة الحكومة (2011-2017)، أو بعد صعود وهبي إلى وزارة العدل في حكومة عزيز أخنوش.
ووصل الخلاف بينهما إلى مستويات غير مسبوقة
من التصعيد، خصوصًا في النقاشات المرتبطة بـ تعديل مدوّنة الأسرة وما يُعرف بملف
“العلاقات الرضائية”، حيث اتهم بنكيران وهبي بـ”العبث بالثوابت الإسلامية للمجتمع
المغربي” و”محاولة فرض قيم غريبة عن هوية البلاد”، فيما ردّ وهبي باتهام بنكيران
بـ”الشعبوية” و”التحريض على الانقسام المجتمعي” و”التعاطي الأخلاقي بدلًا من
القانوني مع القضايا الاجتماعية”.
ولم تقتصر المواجهات بين الرجلين على
المنابر الإعلامية، بل امتدت إلى جلسات البرلمان ومناسبات سياسية عدة، ما جعل أي
لقاء بينهما أمرًا مستبعدًا في نظر المتابعين.
الدبلوماسية السعودية تجمع الفرقاء
اختار السفير السعودي في الرباط أن يكون
الاحتفال باليوم الوطني الـ93 لبلاده مناسبة تجمع طيفًا واسعًا من الفاعلين
السياسيين والمسؤولين المغاربة، لكن ظهور بنكيران ووهبي في المكان نفسه، وجلوسهما
متقاربين، كان الحدث الأبرز في الحفل، لما يحمله من دلالات عميقة.
القيادي في حزب العدالة والتنمية المغربي
الدكتور عبد العلي حامي الدين اعتبر دعوة العدالة والتنمية لمناسبة وطنية سعودية
رسمية، لا تعكس فقط طبيعة العلاقات التي تربط الحزب بالمملكة فحسب، بل أيضا أهمية
العدالة والتنمية في المشهد السياسي المغربي..
قراءة المشهد السياسي
ويضيف حامي الدين في تصريحات خاصة لـ
"عربي21": تقبيل الوزير عبد اللطيف وهبي لرأس بنكيران، هو فضلا عن كونه
من عادات المغاربة احترام الكبار، هو أيضا جزء من التقدير لشخص بنكيران، وهو دليل
واقعي على أن الخلافات السياسية لا تقف مانعا دون علاقات إنسانية قائمة على
الاحترام"، وفق تعبيره.
ويقول الكاتب والباحث في الشؤون السياسية
المغربية الدكتور نور الدين لشهب، في حديث خاص لـ
”عربي21”، إن عبد اللطيف وهبي،
حتى في أشد فترات الصراع بين حزب الأصالة والمعاصرة وحزب العدالة والتنمية، احتفظ
بعلاقات مع بنكيران ومع عدد من قيادات الحزب الإسلامي.
وأضاف لشهب أن قبلة وهبي لرأس بنكيران
والمصافحة الحارة بينهما تحملان رسالة سياسية مهمة مفادها أن بنكيران يمكن أن يعود
ليتصدر المشهد السياسي المغربي في المرحلة المقبلة، ونحن على أبواب انتخابات حاسمة.
وأشار إلى أن المشهد يعكس أيضًا حدة الخصومة
السياسية القائمة بين حزبي الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار داخل التحالف
الحكومي نفسه، وأن الحملة الانتخابية قد بدأت فعليًا، وكل طرف بات يعمل لحساب
مصالحه الحزبية الخاصة أكثر من التزاماته الحكومية.
ولفت لشهب الانتباه إلى أن وهبي شخصية
مزاجية ومتقلّبة سياسيًا، ويبدو أنه يسعى اليوم للعودة إلى قلب المشهد من موقع
جديد عبر إذابة الجليد في العلاقة مع حزب تشير استطلاعات الرأي إلى أنه مرشّح بقوة
لتصدر الانتخابات المقبلة.
رمزية المشهد وما وراءه
وأكد لشهب أنه لا يُعرف إن كان اللقاء قد
تَعدّى حدود المجاملات وتبادل التحية إلى أي نقاش سياسي أعمق، غير أن قبلة وهبي
على رأس بنكيران – رغم كل ما سبقها من صدامات – بدت رسالة بليغة مفادها أن
السياسة
لا تعرف القطيعة الدائمة، وأن الخلافات، مهما بلغت حدّتها، لا تُلغي إمكانية
التلاقي في لحظات إنسانية جامعة.
وأضاف: كما أن هذا المشهد قد يُقرأ في سياق
أوسع، يرتبط بالحاجة الملحة داخل المغرب إلى إعادة بناء الجسور بين التيارات
السياسية والفكرية المختلفة، خصوصًا في ظل النقاشات الكبرى الجارية حول مستقبل
مدوّنة الأسرة، وقضايا الحريات الفردية، وتوازن المرجعيات في التشريع والسياسة.
خطوة رمزية أم بداية صفحة جديدة؟
وأشار لشهب إلى أن يبقى السؤال المطروح
الآن: هل سيظل اللقاء بين بنكيران ووهبي مجرد صورة التقطتها عدسات المصورين في
مناسبة دبلوماسية؟ أم أنه قد يمهّد لفتح قنوات تواصل غير معلنة بين التيار
الإسلامي الذي يمثله بنكيران، والجناح الحداثي الذي يقوده وهبي من داخل الحكومة؟
وأضاف: الإجابات لم تتضح بعد، لكن المؤكد أن
قبلة رأس واحدة كانت كفيلة بكسر جليد سنوات طويلة من القطيعة والاتهامات، وقد تعيد
رسم ملامح خريطة المشهد السياسي المغربي مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية.